البحث بواسطة TAG المجمع

التداخل اللغوي العبري في اللغة العربية المكتوبة في إسرائيل


د. محمود كيال                                                                       
جامعة تل أبيب

تقرير نهائي عن بحث أعد بدعم من مجمع اللغة العربية في حيفا، آذار 2011

 


1. مفهوم التداخل اللغوي (1)

التداخل اللغوي Linguistic Interference هو عبارة عن تطبيق نظام لغوي للغة ما إثناء الكتابة أو المحادثة بلغة ثانية. في حين يعرفه أوريل فينريش Uriel Weinreich "أنه انحراف عن قواعد إحدى اللغتين اللتين يتحدث بهما ثنائيو اللغة نتيجة للاتصال الحاصل بين اللغتين" (Weinreich, 1953, p. 1). ومع ذلك فقد ميّز الباحثون بين مظهرين من مظاهر التداخل: الأول ما يسمى Negative Transfer (النقل السلبي) ويعني أن تأثير اللغة الأولى يؤدي إلى خروج عن قواعد وأسس ومعايير اللغة الثانية، والثاني ما يسمى Positive Transfer (النقل الإيجابي) ويعني أن هذا التأثير يدفع إلى استعمال عناصر ومبانٍ لغوية موجودة أصلاً في اللغة الثانية.

تظهر التداخلات اللغوية بين أي لغتين يوجد بينهما تقارب أو اتصال متبادل. فعملية الترجمة مثلا تؤدي في كثير من الأحيان إلى ما يسمى Discourse Transfer (النقل الخطابي)، أي أن النص الأصلي "يفرض" نفسه على المترجم ويسمح بتأثير لغة المصدر (المنقول منها) في لغة الهدف (المنقول إليها) (Toury, 1995, pp. 274-279). ولكن التداخلات اللغوية تزداد حدة كلما ازداد التقارب والاتصال بين أي لغتين، وخاصة في أوضاع اجتماعية تتميز بالتعددية أو الثنائية اللغوية. كما أن العلاقات غير المتكافئة بين اللغات تساهم هي الأخرى في ازدياد وتيرة التداخلات اللغوية. فاللغات التي تعتبر لغات مهيمنة يمكنها أن تؤثر بشكل واضح في اللغات الأضعف منها، سواء أكان ذلك في ظل وجود أغلبية عرقية في مجتمع ما أو في ظل وجود هيمنة اقتصادية، عسكرية أو ثقافية لشعب ما على شعب آخر.

التداخل اللغوي قد يمسّ كل مستويات اللغة: الألفاظ والأصوات، والتراكيب. ولكن مستوى الوحدات المعجمية يعتبر الأكثر رواجاً في التداخلات اللغوية. فرغم أن لكل لغة معجمها الخاص، لكنّ الفرد قد يضطر إلى إدخال مفردات من معاجم اللغات الأخرى لأنّ تلك المفردات تساعده على تحقيق الوظيفة التبليغية بشكل أفضل، خاصة إذا تعلق الأمر بالمصطلحات العلمية والتقنية. من هنا ينشأ ما يعرف بالاقتراض اللغوي، الذي أشار إليه النحويون القدماء حين حديثهم عن "المعرّب" و"الدخيل" و"الغريب". ولا شك أن العربية وغيرها من اللغات نمت وتطورت في فترات تاريخية معينة بفضل الاقتراض اللغوي، حيث عوضت افتقار معاجمها اللغوية لمفردات في مجالات معينة من خلال استيعاب مفردات من لغات أخرى (Al-Qinai, 2001, pp. 109-110).

وبالطبع لا يقوم التداخل اللغوي على اقتراض المفردات من لغة أخرى بنفس لفظها وتركيبها فحسب، بل يلجأ الكاتب أو المتكلم أحيانا إلى أساليب أكثر تعقيدا وتركيباً. فمثلا قد يستعير المتكلم أو الكاتب اللفظ الأجنبي ثم يخضعه للتصريف بحسب قواعد لغة الهدف (المنقول إليها)، كما يمكنه استحداث مفردات أو توسيع معاني مفردات قائمة، أو ترجمة ألفاظ وتعابير شائعة وذات دلالة في لغة المصدر (المنقول منها) بصورة حرفية، أو اعتماد البنية النحوية للغة المصدر وغيرها من الظواهر التي تقود على الأغلب إلى الانحراف عن قواعد اللغة المعيارية (عصفور، 2007، ص 196).

ويطلق الحبيب النصراوي (2010، ص 101-118) على ظاهرة التداخلات اللغوية تسمية "التوليد"، حيث يناقش ثلاثة أنواع من التوليد وهي: التوليد الشكلي، ويعتمد على الاشتقاق والنحت والتركيب، التوليد الدلالي، ويعتمد على المجاز والترجمة الحرفية، والتوليد بالاقتراض، ويعتمد على الدخيل، وهو ما استعصى على المقاييس والأوزان العربية، والمعرّب، وهو ما أخضع لأوزان العربية ومقاييسها. كما يشير النصراوي إلى أن ثنائيي اللغة أو متعددي اللغات معرضون إلى "العدوى اللغوية"، التي سرعان ما تنتقل إلى ما ينتجون من تراكيب اللغة العربية في مظهرين هما: التراكيب النحوية والتراكيب الأسلوبية. ويعتبر النصراوي أن هناك أربعة أنواع من التراكيب النحوية المولّدة وهي: تعدية الأفعال ولزومها، استعمال حروف التعدية، إضافة متضايفين، والتأنيث والتذكير. أما بالنسبة للتراكيب الأسلوبية فهو يرى أن الاقتراض الأسلوبي "هو محاكاة لغة ما لغة أخرى في استعمالاتها الخاصة التي تظهر خصوصيات المجموعة اللغوية التي تتكلمها" (ن.م.، ص 96).

2. أسباب وعوامل وتطورات التداخل اللغوي العبري في اللغة العربية في إسرائيل

لقد أظهرت أبحاث كثيرة (مثلا Koplewitz 1990; Amara 1999; Talmon 2000; Abdeen 2002 وآخرين) وجود تداخل واسع للغة العبرية في اللغة العربية المحكية في إسرائيل. ويبدو واضحا أن هذا التداخل لم يكن نابعا فقط من كون اللغة العبرية لغة الأغلبية بل لأنها كانت أيضا اللغة المستخدمة في عملية تحديث المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل، كما أن معرفة هذه اللغة ما زالت تعتبر وسيلة هامة للوصول إلى مستويات اقتصادية وتعليمية وثقافية مرموقة في المجتمع الإسرائيلي (Amara, 1999, pp. 205-215). ولا شك أن الاحتكاك المستمر بين الموظفين والطلاب والعمال العرب مع اللغة العبرية في أماكن العمل والدراسة وفي المعاملات اليومية زاد من إمكانية التداخل اللغوي العبري في اللغة العربية المحكية.

هذا التداخل في اللغة العربية المحكية أسهم في تهيئة الفرصة لتداخل موازٍ في اللغة العربية المكتوبة. كما كانت هناك عوامل أخرى ساهمت في تعزيز هذا التداخل في اللغة المكتوبة، منها مثلا غلبة اللغة العبرية في المكاتبات الرسمية، الاعتماد الواسع على ترجمة النصوص العبرية في الصحف والكتب المدرسية وغيرها، انعدام التدقيق اللغوي المهني، وقلة الخبرة والتجربة في الكتابة باللغة العربية الفصيحة. كما أن التقارب اللغوي الموجود بين العبرية والعربية كلغتين ساميتين متشابهتي الألفاظ والمفردات والقواعد كان محفزاً أحيانا على مزيد من التداخل (روزنهويز، 1977، ص 46-45؛ רוזנהויז, 2008, עמ` 65-63).

من جهة ثانية هناك بعض العوامل التي ساهمت في تقليص فرص هذا التداخل اللغوي، ومنها مثلا التقاطب السياسي والاجتماعي بين اليهود والعرب نتيجة للصراع العربي-الإسرائيلي وما صاحبه من إحساس بالغبن على الصعيد المدني لدى المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل. هذا الوضع السياسي والاجتماعي ساهم في تنامي الحس الوطني والقومي وفي تشجيع الاعتزاز بلغة الأم والرغبة في الحفاظ على نقاوتها. زد على ذلك أن التسامح الذي وجدناه تجاه التداخل اللغوي في اللغة المحكية، والذي سوغته ظروف معيشية وعملية، قد أصبح مستهجنا أحيانا حين الكتابة باللغة العربية الفصحى لجمهور قراء لا يجيد اللغة العبرية.

على أية حال يمكننا القول أن التداخل اللغوي العبري في اللغة العربية المكتوبة قد مر بمراحل متعددة تزامنت مع التغييرات التي طرأت على الصعيد اللغوي والسياسي والاجتماعي في المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل. وباعتقادنا يمكن التمييز بين ثلاث مراحل تجلت فيها أشكال مختلفة من التداخلات اللغوية:

1.2. مرحلة التردد (1948-1967)

هذه المرحلة التي أعقبت النكبة الفلسطينية وقيام دولة إسرائيل فرضت على فلسطيني الداخل واقعا لغويا جديدا كانوا ملزمين بالتعامل معه. فاللغة العبرية أصبحت اللغة المتداولة في الدولة الجديدة، وبالتالي تحتم عليهم معرفتها ولو بصورة سطحية. ولكن فرض الحكم العسكري عليهم ومنعهم من التحرك بحرية ونشوء الكثيرين منهم في واقع لغوي مغاير قبل قيام الدولة كلها حدت من إمكانية إتقان اللغة العبرية. ولهذا فإن المثقفين الفلسطينيين في هذه الفترة كانوا قليلي الاطلاع على اللغة العبرية. بل لقد أشار بعض الأدباء إلى عدم إتقان شخصياتهم القصصية للغة العبرية. حتى أن الشخصيات القصصية اليهودية التي ظهرت في بعض الأعمال الأدبية كانت تتحدث هي الأخرى باللغة العربية.

في قصة إميل حبيبي "بوابة مندلباوم" (1954) يشير الراوي إلى واقع لغوي تدركه حتى الطفلة "الجاهلة" الواقفة بجوار البوابة التي تفصل بين شطري مدينة القدس: "هنا يتكلمون العبرية وهناك يتكلمون العربية، وهي أيضا تتكلم اللغتين" (حبيبي، 1997، ص 28). غير أن شخصيات القصة، سواء أكانت يهودية أم عربية، تتحدث دائما بلغة عربية دون أن يظهر في حديثها مفردات عبرية دخيلة.

أما في رواية محمود عباسي "حب بلا غد" (1962) فيبرز بشكل واضح عدم إجادة بطلة الرواية، ليلى، للغة العبرية، حتى أن الضابط الإسرائيلي، الذي يصفه الراوي بالرقة واللطافة، يضطر للتحدث معها باللغة الإنجليزية (وليس بالعربية، رغم اهتمامه بشؤون المواطنين العرب!!!): "ولما وجدها تستصعب الكلام باللغة العبرية.. خاطبها بالانجليزية، وكان لطيفاً ورقيقاً معها مبدياً اهتماماً بالغاً بشؤون المواطنين العرب" (عباسي، 1962، ص 127). ولذا لا نستغرب أن كلمة عبرية واحدة "يوفي" (جميل) ظهرت في الرواية على لسان الضابط الإسرائيلي:

وكادت تجمد في مكانها إذ سمعت صوت تصفيق حاد وشخص يردد كلمتي "برافو .. يوفي.." والتفتت فإذا هي وجها لوجه أمام ضابط جيش إسرائيلي وعلى مقربة منه وقفت سيارة جيب فيها بعض الجنود (ن.م.، ص 126).

نتيجة لكل ما تقدم نجد القليل من التداخلات اللغوية العبرية في النصوص المنشورة خلال هذه الفترة، وهي تتمثل أساسا بإيراد بعض المفردات العبرية. ولكن هذا التردد في استخدام المفردات العبرية، الذي ينبع، من ناحية، عن عدم إتقانها أو عدم شيوعها بين الناس، ومن ناحية أخرى، عن الرغبة في المحافظة على لغة عربية نقية، أخذ شيئاً فشيئاً بالتراجع كلما اقتربنا من نهاية فترة الحكم العسكري (1966). وليس صدفة أنه في سنة 1966 صدرت أول رواية عبرية كتبها كاتب عربي وهي رواية "في ضوء جديد" (באור חדש) لعطا الله منصور (Kayyal, 2008a, pp 38-41). هذا يعني أنه مع طول الأمد ازداد الاطلاع على اللغة العبرية وازداد استخدام مفرداتها في اللغة العربية المحكية.

 

2.2. مرحلة التحدي (1967-1982)

هذه المرحلة التي جاءت بعد نكسة حزيران 1967 وامتدت حتى انهيار المقاومة الفلسطينية في بيروت سنة 1982 تميزت باحتدام الصراع لدى المجتمع الفلسطيني-الإسرائيلي بين الرغبة في الاندماج في المجتمع الإسرائيلي وبين الرغبة في تعزيز الانتماء الوطني والقومي. فالرخاء الاقتصادي وخيبة الأمل من الهزائم والانكسارات المتتالية على المستويين القومي والوطني قويا نزعة الاندماج. في حين أن تجديد العلاقات المنقطعة مع العالم العربي وباقي قطاعات الشعب الفلسطيني وكذلك خيبة الأمل من تهميش المجتمع الإسرائيلي للمواطنين العرب وإلحاق الغبن بهم شجعا النزعات الانفصالية.

هذا الصراع المحتدم تجلى في أزمة الهوية لدى المجتمع الفلسطيني-الإسرائيلي. ولعل أفضل ما يعبر عن هذه الأزمة هو ظاهرة التداخل اللغوي العبري. فمن جهة ازداد بشكل واضح اطلاع المثقفين الفلسطينيين على اللغة العبرية. كما ظهر جيل جديد من المثقفين الذين نشأوا وترعرعوا تحت الحكم الإسرائيلي وتعلموا اللغة العبرية بصورة منتظمة في المدارس والمعاهد المختلفة. إضافة إلى أن انتهاء الحكم العسكري على المواطنين العرب زاد من إمكانية احتكاكهم اليومي باللغة العبرية. ولكن من جهة أخرى أصبحت اللغة العبرية، التي تحمل خطابا فكريا وسياسيا صهيونيا، وسيلة من وسائل تغريب الفلسطيني ونفيه عن وطنه ومصادرة هوية مكانه وتهميش لغته، مما جعل التصدي لسياسة المؤسسة الإسرائيلية مرتبطاً أيضا بتحدي اللغة العبرية وخطابها.

في رواية "المتشائل" (1974) يؤكد إميل حبيبي في أكثر من موضع أن الظروف التي يعيشها الفلسطينيون تحت الحكم الإسرائيلي تحتم عليهم معرفة اللغة العبرية والتحدث بها، بل أحيانا حتى التنكر للغة العربية وللهوية العربية. هذه الظروف تتجلى، قبل كل شيء، بالاحتكاك اليومي باليهود في مرافق الحياة المختلفة وما يفرضه ذلك من حاجة للتواصل اللغوي. فسعيد، بطل الرواية، الذي كان لا يجيد العبرية، لم يرغب بالتحدث باللغة العربية في بيئة يهودية لئلا يكشف عن هويته العربية:

فبأية لغة اسأل هؤلاء الناس عن الوقت؟ فإذا سألتهم بالعربية كشفوا أمري. فبالانجليزية أثرت شكوكهم. فرحت أستعيد ما أذكره من كلمات عبرية حتى تبادر إلى ذهني أن السؤال بالعبرية هو: "ما شاعاه" (2) (حبيبي، 1997، ص 222).

ولهذا فقد اضطر سعيد في نهاية الأمر أن يتعلم اللغة العبرية، بل إنه ألقى أول خطاب له بهذه اللغة بعد عشر سنين من بدء تعلمها. ولكن سعيداً رغم تعلمه اللغة العبرية يحتفظ بذاكرة المكان وبهويته الحضارية واللغوية، وهو يرى أن الطبيعة نفسها تحتفظ بهذه الذاكرة وبهذه الهوية، فنجده يخاطب الأسماك باللغة العربية، وحين يسأله طفل يهودي إذا كانت الأسماك تفهم اللغة العربية يقول له: "السمك الكبير، العجوز، الذي كان هنا حين كان هنا العرب" (ن.م.، ص 310).

ومع ذلك فحبيبي لا يتجاهل السيطرة اليهودية على سوق العمل والحركة التجارية والمرافق الاقتصادية الهامة التي تؤدي بشكل واضح إلى طغيان للغة العبرية على المعاملات التجارية. حتى أن الفلسطينيين المقيمين في الضفة الغربية وقطاع غزة، الذين لم يمض على احتلالهم واحتكاكهم المباشر مع اللغة العبرية عند كتابة الرواية (1974) سوى وقت قصير، قد اضطروا هم أيضا إلى معرفة اللغة العبرية وتداولها في الحركة التجارية:

أما العجيب في الأمر الآن فهو أن صبّاني نابلس، بعد ربع قرن من هذا الكلام، أتقنوا اللغة العبرية في أقل من سنتين. ولما تحول أحدهم إلى صناعة الرخام علق على مدخل جبل النار لافتة بالخط الكوفي المقروء جيداً عن مصنع "الشايش" الحديث لصاحبه مسعود بن هاشم بن أبي طالب العباسي. و"الشايش" هو رخام بالعبرية. فليست الحاجة أم الاختراع فقط، بل أيضا مصلحة كبار القوم، التي أرخصت أمهاتهم، فقالوا: الذي يتزوج أمي هو عمي! ومن مصالحهم أيضاً أن يحولوا بين العامة والاتفاق على لغة مشتركة، حتى ولو كانت الاسبرنتو، لكي لا يحولوا بينهم وبين ملكهم (ن.م.، ص 223).

من الواضح أن حبيبي لا يكتفي بالإشارة ببساطة إلى هذه الظاهرة وإنما يجد لها تعليلا طبقياً يقوم على أساس أن كبار القوم يهتمون بمصالحهم التجارية، حتى لو كان الثمن لذلك تطويع اللغة العربية وتطعيمها بالدخيل. أما اختيار حبيبي لاسم صاحب المصنع ففيه نبرة تهكمية بشأن انتساب هؤلاء القوم إلى بني هاشم (آل البيت) وأبي طالب (سلالة علي من الشيعة) والعباسيين، وجمعيهم من أقطاب الدولة الإسلامية، لكي يضفي التجار على أنفسهم وعلى أعمالهم شرعية دينية وقومية.

إلا أن هذا التعليل الطبقي لا يتفق تماما مع ما أشار إليه حبيبي لاحقا بشأن اضطرار بعض العمال العرب إلى إنكار أسمائهم العربية وتفضيل الأسماء العبرية عليها، وذلك طلباً للرزق وخوفاً من فقدان مكان العمل:

والندل شلومو، في أفخم فنادق تل أبيب، أليس هو سليمان بن منيرة، ابن حارتنا؟ ودودي، أليس هو محمود؟ وموشي، أليس هو موسى بن عبد المسيح؟ فكيف كان يرتزق هؤلاء، في فندق أو في مطعم أو في محطة بنزين، لولا الخيال الشرقي (ن.م.، ص 292-293).

ظروف العمل هذه التي تلزم العمال العرب على إجادة اللغة العبرية، ولو بشكل سطحي، تتجلى أيضا في قصة محمد علي طه "حكايا.. ما بعد الأيام الستة" (1978):

كان حسن اغبارية لا يعرف من كلمات اللغة العبرية عدد أصابع يديه. ولكنه يذهب صباح الأول من كل أسبوع إلى تل أبيب ليعمل في مصنع الطوب ولا يعود إلى أم الفحم إلا مساء الجمعة [...] كان حسن يعرف "ما هذا" في العبرية.. ويعرف أن يسأل أيضا.. "ماذا تريد؟" (طه، 1978، ص 63).

لكن انتشار استخدام اللغة العبرية شكّل تحديا كبيرا بنظر الأدباء والمثقفين الفلسطينيين. فهذه اللغة اعتبرت، من ناحية، أداة حيوية وضرورية للتخاطب والتواصل في المعاملات اليومية، ومن ناحية أخرى، أصبحت أداة لقمع طموحاتهم الوطنية وتهميش لغتهم الأم التي يعتزون بها. ولهذا فقد حاولوا تحدي اللغة العبرية كلغة الأغلبية ليس فقط عبر إبراز غنى اللغة العربية وجماليتها وطواعيتها لكاتبها، وإنما أيضا من خلال إبراز المفردات العبرية التي تمثل خير تمثيل الخطاب الاستعلائي الإسرائيلي الذي يقوم على نفي الإنسان الفلسطيني ومصادرة مكانه.

ولعل أكثر ما أقلق المثقفين الفلسطينيين هو استبدال أسماء الأماكن العربية بأسماء عبرية. فمعركة الوجود الفلسطيني لم تعد، بنظرهم، مرتبطة فقط بتهجير السكان الفلسطينيين عن ربوع بلادهم وتغيير معالمها العمرانية وإنما مرتبطة أيضا بتبديل أسماء الأماكن العربية بأسماء عبرية قديمة أو حديثة كجزء من مصادرة هوية المكان.

محمود درويش يعبر في "يوميات الحزن العادي" (1973) عن شعوره هذا بمصادرة هوية المكان حتى في شارع المتنبي في حيفا:

تنزل من السيارة، وتقرر العودة إلى البيت مشيا. تصيبك نوبة قراءة أسماء الشوارع. فعلا، محوا أسماءها. صار صلاح الدين شلومو. وتتساءل: لماذا حافظوا على اسم المتنبي!

وعندما تصل إلى شارع المتنبي تقرأ الاسم، لأول مرة، باللغة العبرية، فتجد أنه "المونت نفي" وليس المتنبي كما كنت تتصور. (درويش، 1979، ص 23-24).

وفي "المتشائل" نرى أن سعيداً يذكر اسم "مرج ابن عامر" في حين يصر الرجل الكبير في المؤسسة الإسرائيلية على تسميته "سهل يزراعيل" (حبيبي، 1997، ص 326)، وحين يرى سعيد عين جالوت التاريخية ينتبه إلى أنها "أعيدت إلى أصلها التوراتي – عين حارود" وتحولت إلى كيبوتس (ن.م.، ص 330)، وأما نابلس فأصبحت "شخيم" (ن.م.، ص 342). ومن الواضح أن جميع هذه الأسماء سيقت للدلالة على محاولة سلخ هذه الأماكن من الذاكرة الفلسطينية.

أما محمد علي طه فإنه يخلق في قصته "حكايا.. ما بعد الأيام الستة" (1978) مواجهة بين معلم الجغرافيا وطلابه وبين ما تحاول الكتب المدرسية والمؤسسة الإسرائيلية فرضه من مسميات عبرية تلغي الوجود العربي:

قرأت في الكتاب يا أستاذ عن مدينة اسمها "صفات" فأين تقع يا أستاذ؟

قال حسن الحامد بمرارة: في الجليل.

فعاد التلميذ يستفسر وهل هي بعيدة عن "صفد"؟

- هي.. هي.

- ولكني لا أفهم لماذا غيّر هذا الكتاب اسمها؟

وتشجع ولد آخر وسأل: هل الخليل هي مدينة سيدنا إبراهيم؟

قال حسن الحامد: نعم.

قال الولد: ولكن الكتاب يقول: حبرون! (طه، 1978، ص 65)

وإذا كانت أسماء الأماكن العبرية تشير، برأي هؤلاء الأدباء، إلى محاولة مكشوفة لمصادرة المكان فإن المصطلحات والتسميات العبرية الشائعة في الخطاب السياسي والفكري الصهيوني تشكل محاولة مبطنة لمصادرة المكان ونفي الإنسان الفلسطيني. ولهذا نجدهم يستخدمون المصطلحات والتسميات العبرية بشكل ساخر يهدف إلى تحديها ورفضها.

3.2. مرحلة الثنائية اللغوية (منذ 1982 وحتى اليوم)

هذه المرحلة التي أعقبت عقد اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل وانهيار المقاومة الفلسطينية في بيروت وما تبعهما من إسقاطات على العلاقات اليهودية-العربية في إسرائيل تميزت باتساع احتكاك المواطنين العرب باللغة العبرية في كافة مرافق الحياة، كما ازداد بشكل واضح التداخل اللغوي العبري في اللغة العربية المحكية. وبالمقابل ازدادت التداخلات اللغوية العبرية في اللغة العربية المكتوبة ازدياداً ملحوظاً، ولم تتوقف التداخلات اللغوية عند مستوى المفردات وإنما أخذت تشمل أيضا مستوى التراكيب.

ومن مزايا هذه المرحلة أيضا أن المثقفين العرب صاروا أكثر ثقة بلغتهم العبرية، بل وانتشرت ظاهرة الكتابة المباشرة باللغة العبرية من قبل بعض المثقفين الشباب، وحظيت باهتمام الأوساط الثقافية اليهودية، حتى أن رواية "عربسك" التي كتبها أنطون شماس (1988) حازت على اهتمام واسع وأصبحت من أبرز الروايات العبرية (Kayyal, 2008a, pp 42-45). وبالتالي فقد طغى الإحساس بتفاقم أزمة الهوية في المجتمع الفلسطيني-الإسرائيلي.

بل إن الرعيل السابق من المثقفين ازداد هو الآخر ثقة بلغته العبرية. فها هو إميل حبيبي في رواية "إخطية" (1985) يسمح لنفسه بالخوض في قضايا وظواهر لغوية عبرية محللا ومترجما ومعللا لها. فالراوي في هذه الرواية يبين لنا ميل اليهود المتحدثين باللغة العبرية إلى النحت:

"وإخواننا اليهود مولعون بهذا المزج والتصحيف والاختصار، ويعتبرونه آية في التحضر، وهو من عجائبهم. فتكثر، في أسماء شركاتهم، بدايات ونهايات "أم". وهي اجتزاء كلمة "أمريكا". [...] ويشتد التصحيف والاختصار والمزج حين يطلقون الأسماء الشتى على حركاتهم السياسية وحركات سواهم." (حبيبي، 1997، ص 610-611).

وكأني بالراوي يحاول من خلال هذه الشروحات أن يتخذ دور الوسيط بين اللغة العبرية وبين القارئ العربي. ولكن هذا الانطباع سرعان ما يتبدد حين يكتشف القارئ أن الراوي نفسه يحاول أن يزرع الشك بشأن مدى اطلاعه على اللغة العبرية، إما بصورة مباشرة من خلال التأكيد على عدم يقينه بشأن شروحاته، وإما بصورة غير مباشرة من خلال النبرة الساخرة التي ترافق هذه الشروحات. فمثلا حين يوضح كيفية نحت اسم شركة صناعة البرادات الكهربائية "أمكور" يبيّن أن "أم" مجتزأة من أمريكا ثم يقول:

"فتركوا الرمز – "كور"- مبهماً. فإما أن يكون من "كوربوريشين"، وهو "شركة"، وإما أن يكون من "كور" العبرية، وهو البرد. فيصبح اسم الشركة "الأمريكي البارد". وهو جائز اجتزاء كما قيل لي. والله أعلم." (ص 610-611).

إن عدم يقين الراوي بشأن تحليله ("والله أعلم") والإحالة إلى مرجع مجهول ("كما قيل لي")، وبروز النبرة التهكمية ("الأمريكي البارد") كلها تجعل القارئ متشككا في معرفة الراوي للغة العبرية وبالتالي في دوره كوسيط بين هذه اللغة والقارئ.

كما أن بعض الأخطاء التي يرتكبها الراوي في تحليله لبعض الظواهر اللغوية العبرية تلقي مزيداً من الشك على دور الراوي كوسيط لغوي. فمثلا حين يحلل الراوي ظاهرة النحت في كلمة "رامزور" العبرية فإنه يقول:

"وشارات المرور الضوئية يسمونها، في بلادنا، "الرامزور" و"رامزور" مزج كلمتين عبريتين، مع تصحيفهما، وهما "رام" ومعناها: العالي، المرتفع، الصارخ و"زركور"، ومعناها الكشاف الضوئي." (ص 610).

هذا التحليل لا يتفق مع ما هو معروف في المعاجم العبرية من أن هذا النحت جاء من كلمتي "رمز" (وتعني إشارة) و"أور" (وتعني ضوء). وسواء تعمّد الراوي هذا التحليل الخاطئ أم لم يتعمده فإنه يسهم بذلك بتقويض دوره كوسيط أمين بين الثقافتين العبرية والعربية. ويبدو لنا أن تشكيك الراوي بدوره كوسيط لغوي يأتي كمؤشر واضح لأزمة الهوية التي يعاني منها، فالتمكن من ناصية اللغة العبرية يعني إلى حد ما قبول هيمنتها والاندماج بالمجتمع الإسرائيلي، وهو أمر لا يرضى به الراوي كناقد للمجتمع الإسرائيلي وممارساته بحق الشعب الفلسطيني، الذي ينتمي إليه.

على كل حال فأن التشكيك بدور الراوي كوسيط في "إخطية" لا يمكن أن يقلل من شأن ازدياد التداخل اللغوي العبري في اللغة العربية المكتوبة في هذه المرحلة. ومن الملاحظ أن هذا التداخل لم يعد يقتصر على مستوى المفردات ذات الصلة بخصوصيات المجتمع الإسرائيلي، وإنما أصبح يشمل المفردات العبرية التي لا يوجد لها خصوصية معينة والتي يمكن بسهولة العثور على مرادفات عربية لها، كما أصبح يشمل أيضا مستوى التراكيب. وبات من الواضح أن هذا التداخل صار يأتي بعفوية نظرا لانسياق الكاتب وراء المفردات الشائعة في اللغة العامية أو بسبب ثنائية اللغة لدى بعض المثقفين.

3. أنواع النصوص العربية وتأثير التداخل فيها

يتخذ التداخل اللغوي العبري في اللغة العربية المكتوبة أشكالا ومظاهر مختلفة كما يمس مستويات متباينة في اللغة. ولا شك أن تباين النصوص المكتوبة يسهم في خلق تفاوت في حجم ووتيرة التداخل وفي تنويع أشكاله ومظاهره ومستوياته. ونكاد نجزم، على ضوء ما أشرنا إليه سابقاً من إسهام الترجمة في التداخل اللغوي، بأن النصوص المترجمة بشكل مباشر عن اللغة العبرية هي الأكثر عرضة لظهور التداخل فيها والأكثر تنويعا في مستويات التداخل فيها. وهذا يعني أن النصوص التي تعتمد على ترجمات جزئية أو تلك التي تتأثر بشكل مباشر أو غير مباشر بالخطاب العبري، كالنصوص الصحفية التي تعالج شؤون الساعة في إسرائيل، تكون هي الأخرى عرضة للتداخل، مع أن هذا التداخل يكون أقل بروزا منه في النصوص المترجمة. أما النصوص المكتوبة باللغة العربية، والتي لا تعتمد على الترجمة أو لا تتأثر مباشرة بالخطاب العبري فإنها الأقل عرضة للتداخل، كما أن التداخل فيها قد لا يطال جميع مستويات اللغة.

بناء على ذلك، ومن أجل الاستفاضة في دراسة تأثير التداخل اللغوي العبري على النصوص العربية، فقد ارتأيت التركيز على ثلاثة أنواع مختلفة من النصوص وهي: النصوص المترجمة من العبرية إلى العربية، النصوص الأدبية والنصوص الصحفية. هذه الأنواع من النصوص لا تشمل بالتأكيد جميع أنواع النصوص المكتوبة بالعربية في إسرائيل ولكنها تمثل من حيث الكمية والمكانة نصوصا ذات حضور بارز في المشهد الثقافي واللغوي العربي في إسرائيل.

1.3. النصوص المترجمة

عانى الفلسطينيون الذين ظلوا تحت الحكم الإسرائيلي من ارتفاع حاد في نسبة الأمية بعد نزوح معظم المثقفين والمتعلمين من بينهم إلى الدول العربية المجاورة. وقد أدى ذلك إلى تدهور الحياة الثقافية والأدبية، وإلى تراجع حركة الترجمة من اللغات الأوروبية إلى اللغة العربية، التـي كانت نشطة في فلسطين قبل 1948، وأفسح المجال أمام الترجمة عن اللغة العبرية، التـي أصبحت أيسر منالاً بعد أن صارت العبرية لغة الدولة الرسمية.

أضف إلى ذلك أن الهيئات والمؤسسات الحكومية والهستدروتية رغبت في إحكام السيطرة على الأقلية الفلسطينية، كما رغبت في دمج يهود الدول العربية في المجتمع الإسرائيلي. ولتحقيق هاتين الغايتين تم تنشيط حركة الترجمة عن اللغة العبرية، خاصة وأن بعض اليهود المثقفين القادمين من الدول العربية كانوا يجيدون اللغتين العربية والعبرية، فساهموا مساهمة فعالة في دفع هذه الحركة.
وكانت الحاجات الحياتية والفكرية والتعليمية للمجتمع الفلسطيني في إسرائيل، التي تفاقمت نتيجة لانقطاع التواصل المباشر مع العالم العربي، حتمت هي الأخرى تسارع حركة الترجمة عن العبرية وتفرعها وتشعبها لمجالات شتى. ولهذا فقد تنوعت على مدى السنين النصوص المترجمة وشملت نصوصاً أدبية وفكرية وقانونية وتعليمية وإرشادية وإعلانية وغيرها. كما لم تعد الترجمة منذ أواسط الستينات في القرن العشرين حكراً على المترجمين اليهود بل خاض غمارها مترجمون عرب.
 
وإذا توقفنا عند تجليات التداخل اللغوي العبري في هذه الترجمات العربية عن اللغة العبرية فإننا نلاحظ أن هذا التداخل أخذ يزداد باطراد مع تقدم حركة الترجمة، كما أخذ يتسع ليشمل مستويات لغوية مختلفة. ففي الخمسينات والستينات من القرن العشرين ارتبطت معظم التداخلات اللغوية العبرية في هذه الترجمات بالمصطلحات والمسميات الخاصة بالديانة اليهودية وبالواقع الإسرائيلي. ولكن منذ بداية السبعينات من القرن العشرين بدأنا نرى بوضوح ازديادا ملحوظا في هذه التداخلات وتنوعاً في مستوياتها.

هذه التداخلات لم تنحصر في نوع محدد من النصوص المترجمة وإنما تجلت في كافة أنواع النصوص، بل وحتى في الترجمات الأدبية،(3) مما دفع بعض النقاد والباحثين إلى الإعراب عن استهجانهم لمثل هذه الظواهر اللغوية. فشموئيل موريه مثلا في معرض حديثه في مجلة "همزراح هحداش" (الشرق الجديد) العبرية عن ترجمة أنطون شماس لديوان دافيد روكياح "من صيف إلى صيف" يقول: "على الرغم من جهوده الرائعة لتقديم ترجمة دقيقة وأمينة إلى اللغة العربية، فإن أنطون شماس يميل نحو الجرأة المفرطة من خلال استخدام الكلمات المستحدثة غير المستعملة في اللغة العربية والبعيدة كل البعد عن قواعد المعجمية العربية." (מורה 1979, עמ` 326).

ويبدو لي أنه من بين الأسباب التي ساهمت في ازدياد هذه التداخلات وتنوعها:

1) أوكلت الكثير من أعمال الترجمة لمترجمين مبتدئين وهواة، تم تشغيلهم بشكل مؤقت من قبل شركات ومؤسسات تهدف لإنجاز هذه الأعمال بأسرع وقت ممكن وبأقل تكلفة ممكنة.

2) غاب دور المدققين اللغويين، إما لندرة وجودهم، أو لانعدام الميزانيات اللازمة لتشغيلهم، وبالتالي نشرت الكثير من الترجمات دون مراجعة لغوية.

3) بعض النصوص الرسمية وشبه الرسمية تم التعامل معها بحذر شديد خشية أن تبتعد الترجمة عما ترمي إليه هذه النصوص، فعمد المترجمون إلى الترجمة الحرفية دون أن يهتموا بإيجاد البدائل المناسبة في اللغة العربية أو بمراعاة قواعدها.

4) القواميس والمعاجم، ولا سيما الثنائية اللغة (عبري-عربي)، باتت عاجزة عن إعطاء حلول مناسبة للمترجمين، خاصة وأنها لم تواكب تطور كلا اللغتين، إضافة إلى انعدام القواميس والمعاجم المهنية التي يمكنها أن توفر المصطلحات المتعلقة بالعلوم والمعارف المختلفة.

5) استخدام بعض الكلمات والمصطلحات العبرية في اللغة العربية المحكية أعطى الشرعية للمترجمين لعدم بذل جهد في سبيل إيجاد بدائل لها.

6) تجاهل القراء والنقاد والمثقفين لما في هذه الترجمات من ركاكة في اللغة ومن تزايد التداخلات اللغوية، إما لاعتقادهم بأن هذه الترجمات هامشية في المشهد الثقافي واللغوي العام، وإما لعدم قناعتهم بجدوى الاعتراض، إضافة إلى أن العديدين منهم، ولا سيما الذين يجيدون العبرية، يفضلون الرجوع إلى النصوص العبرية الأصلية.

2.3. النصوص الصحفية
مع قيام دولة إسرائيل توقفت عن الصدور جميع الصحف العربية الفلسطينية التي صدرت في البلاد منذ العهد العثماني، عدا صحيفة "الاتحاد"، الناطقة بلسان الحزب الشيوعي، التي تأسست عام 1944. ونتيجة لتغير الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية فقد أنشئت منذ عام 1948 العديد من الصحف والمجلات العربية التي تنوعت أهدافها وتوجهاتها ومميزاتها ومدة إصدارها. ويمكننا التمييز بين مراحل مختلفة في تطور الصحافة العربية في البلاد:(4)
 
1948-1968: برزت خلال هذه الفترة الصحافة التابعة للمؤسسة الإسرائيلية والحزب الحاكم، مثل "حقيقة الأمر" (1937-1959)، و"اليوم" (1948-1968). هذه الصحف عكست مواقف المؤسسة الإسرائيلية وخطابها السياسي واللغوي، خاصة وأنها اعتمدت بشكل كبير على ترجمة وتحرير الأخبار والآراء من العبرية إلى العربية. كما ظهرت الصحافة الحزبية الصهيونية، مثل "المرصاد" (1952-1977)، "الحرية" (1954-1956) وغيرها، التي حملت مبادئ وتوجهات وخطابات الأحزاب الصهيونية التي أصدرتها والتي حاولت من خلالها التأثير على القراء العرب. بالمقابل كانت صحافة الحزب الشيوعي، مثل الاتحاد" (1944-)، "الجديد" (1951-2001)، و"الغد" (1954-1988)، تحاول استقطاب الجماهير العربية من خلال خطاب ثقافي أممي ووطني. كذلك نشأت في هذه الفترة مجلات كان هدفها استمالة المثقفين العرب البعيدين عن الحزب الشيوعي والحركة الوطنية، مثل "المجتمع" (1954-1959)، و"الهدف" (1960-1962).

1968-1983: في هذه الفترة حاولت الصحافة التابعة للمؤسسة أو المقربة منها، مثل "الأنباء" (1968-1984) و"الشرق" (1970- )، إتباع خطاب أكثر ليبرالية وانفتاحاً من أجل التقرب من المثقفين الفلسطينيين ليس فقط في إسرائيل بل أيضا في الضفة الغربية وقطاع غزة. في حين حاولت الصحافة الشيوعية ترسيخ قاعدتها الجماهيرية، الأمر الذي بلغ ذروته حين تحولت "الاتحاد" عام 1983 إلى صحيفة يومية.

منذ 1983 وحتى اليوم: نشأت خلال هذه الفترة الصحافة التجارية، مثل "الصنارة" (1983- )، "بانوراما" (1983- )، و"كل العرب" (1987- )، إضافة إلى نحو أربعين صحيفة تجارية صغيرة ومتوسطة. هذه الصحف التجارية صدرت على الأغلب نتيجة رغبة واضحة من قبل الشركات الإسرائيلية الكبرى في ترويج منتجاتها ومضاعفة مبيعاتها بين المواطنين العرب. وقد عمدت هذه الصحف إضافة إلى طبيعتها التجارية إلى متابعة نبض الشارع العربي من خلال الأخبار والتقارير، وبذلك تمكنت من أن تزداد رواجا وحضورا وتأثيرا بين القراء دون أن تنهض بالمستوى المهني للصحافة. كما أنها عملت على استحداث مواقع الانترنيت لتغطية الأخبار اليومية ولتلبية حاجات جيل الشباب. بالمقابل شهدت هذه الفترة اضطرابا في مكانة الصحافة التابعة للأحزاب والتنظيمات السياسية العربية، ففي حين تراجع دور الصحافة الشيوعية بشكل ملحوظ في أواخر سنوات الثمانين من القرن العشرين، برز دور صحافة الحركة الوطنية والحركة الإسلامية، مثل "التضامن" (1983-1985)، "الراية" (1986-1988)، "الميدان" (1989-1990)، "صوت الحق والحرية" (1989- )، "فصل المقال" (1996- ) وغيرها. كذلك تنوعت وتعددت في هذه الفترة المجلات الثقافية والأدبية، مثل "المواكب" (1984- )، "الأسوار" (1988- )، "مشارف" (1995- ) وغيرها، التي حاولت التواصل مع المثقفين والقراء العرب خارج إسرائيل.

ولا شك أن التداخلات اللغوية العبرية تأثرت بهذه التغييرات الحاصلة في الصحافة العربية في إسرائيل، ولكن الانطباع السائد هو أن هذه التداخلات أخذت بالازدياد من مرحلة إلى أخرى، كما أخذت تتسع لتشمل مستويات لغوية مختلفة. ويبدو لنا أن هذه التداخلات اكتسبت زخماً من خلال العوامل التالية:

1) بما أن الصحافة إجمالا موجهة لجمهور واسع من القراء، متعدد المشارب، مختلف المستويات الثقافية، فقد مالت لغة الصحافة إلى اليسر والسهولة حتى تكون في متناول طبقات القراء، الأمر الذي جعلها "أطوع للاستحداث وأوسع مجالا لتقبُّل ما يطرأ على اللغة مما قد يعده الصفويون خروجا عن القواعد" (النصراوي، 2010، ص 3).

2) التزام بعض الصحف، ولا سيما الرسمية وشبه الرسمية والحزبية الصهيونية، بخطاب فكري وأيديولوجي منبثق من الثقافة العبرية والصهيونية.

3) اشتغال العديد من اليهود الشرقيين ذوي الثقافة العربية العبرية في الصحافة العربية وخاصة في سنوات الخمسينات والستينات من القرن العشرين.

4) الاعتماد بشكل كبير على ترجمة الكثير من الأخبار والتقارير والإعلانات وغيرها عن اللغة العبرية، إما لشحّ الميزانيات وعدم القدرة على تشغيل طاقم صحفي مهني كبير، وإما لأن هذه الموادّ ترد إلى الصحيفة أصلا باللغة العبرية فتضطر لترجمتها.

5) لم تولِ الصحف أهمية كبيرة للمراجعة اللغوية، وإذا قامت بتشغيل مراجعين لغويين فإنهم يكونون على الأغلب قليلي الخبرة ذوي أجر زهيد.

6) التوجه بشكل أساسي إلى جمهور القراء في البلاد أدى إلى استخدام بعض الكلمات والمصطلحات العبرية المتداولة في اللغة العربية المحكية، دون مراعاة مدى فهم هذه الكلمات والمصطلحات خارج إسرائيل.

7) إقبال الكثير من القراء العرب وبعض وسائل الإعلام في العالم العربي على الصحف العبرية الإسرائيلية أعطى الشرعية للصحف المحلية للإقبال بشكل أكبر على هذه الصحف والاعتماد عليها والاستفادة منها.

8) اهتمام الصحافة التجارية، التي أصبحت الأبرز على الساحة الإعلامية منذ 1983، بالرواج والمردود المادي جعلها تتنازل عن الكثير من معايير الرصانة الصحفية، ولا سيما على الصعيد اللغوي.

9) اعتماد الصحافة على الصحفيين ذوي التمكّن المحدود من اللغة العربية الفصحى.

3.3. النصوص الأدبية

لقد مرّ الأدب العربي في البلاد منذ العام 1948 وحتى نهاية القرن العشرين بتطورات وتغييرات عديدة ناجمة عن الأوضاع السياسية والاجتماعية المتقلبة خلال هذه الفترة. ويمكننا التمييز بين ثلاث مراحل أساسية في تطوره:

أ. 1948-1956: واجه المثقفون الفلسطينيون بعد النكبة حالة من الذهول والتردد والترقب، ولكن سرعان ما اضطروا للتعامل مع الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الجديدة. وظلت الحياة الأدبية تدور في فلك ثلاثة أقطاب سياسية: الصحافة الشيوعية، صحافة المؤسسة الإسرائيلية، والصحافة المستقلة المهادنة للسلطة. ووجد الأدباء اليهود القادمون من الدول العربية فرصة للانخراط في الحياة الأدبية. ولكن ما صدر خلال هذه الفترة ليس إلا عددا قليلا من الأعمال الأدبية، وهي بمعظمها أعمال ساذجة من ناحية فنية وتحمل طابعا رومانسيا. في نهاية هذه الفترة، وعلى ضوء النقاشات السياسية المحتدمة في "رابطة شعراء العربية" (1954)، انقسم الأدباء والشعراء إلى معسكرين أيديولوجيين متصارعين: الأول مهادن للسلطة وعلى رأسه الشاعر ميشيل حداد (1919-1997) والثاني راديكالي مناهض للسلطة ويحمل فكرا ماركسيا ووطنيا، وعلى رأسه عصام عباسي وحبيب قهوجي (مصطفى، 1986، ص 94-195؛ שניר, 1990, עמ` 249-253؛ غنايم، 1995، ص 38-40).

ب. 1956-1967: أخذ الأدب الفلسطيني في الداخل يتبلور كأدب ملتزم يحمل مشاعر الإحباط والاغتراب لدى الفلسطينيين في وطنهم، ومعاناة اللاجئين الفلسطينيين وتعاطف الأدباء مع كفاح الشعوب من أجل الحرية والاستقلال. وكان الشعر هو النوع الأدبي الأكثر قبولا ورواجا، حيث ساهمت في ذلك المهرجانات الشعرية التي نظمت في القرى العربية وخلقت اتصالا مباشرا بين الشاعر وجمهوره. وقد حظي هذا الشعر بإعجاب الكتّاب والنقاد في العالم العربي، أمثال يوسف الخطيب (مواليد 1931) و غسان كنفاني (1936-1972) ، اللذين اهتما بهذا الشعر منذ عام 1964، ووصفاه بأنه "شعر المقاومة" (مصطفى، 1986، ص 191؛ غنايم، 1995، ص 42-45).

ج. منذ 1967 وحتى أواخر القرن العشرين: اتس

علامات الصفحة:  لا يوجد
 
اتصلوا بنا





   
انطلاقا من الوعي بأهمية اللغة العربية كلغة ذات تراث عريق، وكلغة قومية لقطاع واسع من سكان هذه البلاد
شارع الخوري 2، حيفا +972-4-8622070 majma@arabicac.com