المصطلح التربوي النفسي "تقييم" لا "تقويم"
د. سبع أبو لبدة
الجامعة الأردنية
لقد استمع الباحث إلى محاضرين قريبين من سدة الحكم يتحدثون عن الوطنية فوجد أنهم يستعملونها بمعنى القطرية أو الإقليمية أو المواطنة، كما يستعملها خصومهم بمعنى حب الوطن والغيرة عليه، والتضحية بالنفس والنفيس من أجل تحرير الأجزاء المغتصبة منه. أما رجل الشارع فيصنف المواطنين إلى: وطني يغضب ويحزن ويثور إذا مس وطنه ضر، ويفرح ويطرب إذا أصابه خير وازدهار وتقدم، وغير وطني إذا كان لا يعبأ بشؤون وطنه وأمته، ولكنه يعتبرهما مواطنين.
ورغبة في التحري عن الحقيقة، اطلع الباحث على مناهج التربية الوطنية وكتبها في بعض البلاد العربية، فوجد أن بعضهم يفهم الوطنية على أنها تسخير التربية لخدمة أهداف المسؤولين وترسيخ القطرية أو الإقليمية، لا صناعة أناس ذوي حس أنساني يحبون البلاد العربية ويغارون عليها مثلما يرى بعض المربين، مما يعني أن هناك فراقا بين النظر والعمل، أو طلاقا بين التفكير والتطبيق.
لقد أشار الباحث محمد عبد الخالق مدبولي في اطروحته (1990م) إلى مشكلة التباين بين النظريين والتطبيقيين فقال:
" والواقع الفعلي- في مصر وأغلب البلدان- أن ثمة فجوة هائلة بين المختصين في التربية من رجال الجامعات ومراكز البحوث، وبين المختصين بوضع السياسات التعليمية وتنفيذها، ولعل أحد أسباب تلك الفجوة ما يتمثل في ذلك الاختلاف حول الإجراءات التي تلزم عن المفهومات التربوية، والتناقض بين المبادئ المعلنة ذات البريق وبين التطبيق الفعلي، والسبب أن المفهوم التربوي الواضح مفتقد لدى الجانبين".
وهناك مشكلة أخرى وهي ركام المصطلحات القديمة. فنحن قد ورثنا مفاهيم قديمة كانت صحيحة آنذاك ومناسبة في حينها، ولكن بعضها مات بفعل الزمان أو أصبح لا يتناسب مع عصرنا إلا إذا أعدنا صياغته وحدَّه أو تعريفه من جديد. أضف إلى ذلك مشكلة المتأدبين من التربويين الذين يشطحون في الخيال، ويتقعرون في اللفظ، ويهمهم السجع والفصاحة والبلاغة وجزالة اللفظ ولو على حساب المعنى، كأنَّ التربية لعب بالألفاظ، أو خيال وليس بعلم، مما يحدث تشويشا واضطرابا فكريا لدى المعلم والمتعلم ويجعل الباحث يتوه أو يضل وهو يبحث عن مقصد الكاتب أو يفشل في الفهم والتفاهم معه أو مع غيره.
ومن مشكلات المصطلح أو المفهوم، اختلاف الاتجاهات أو المدارس والبلدان التي تخرّج منها المربون فهذا سلوكي، وذاك معرفي أو جشطالطي أو فرويدي. ومنهم من درس في إنكلترا أو ألمانيا وغيرهم قد درس في فرنسا أو الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفياتي. وعندما عاد هؤلاء عادوا بمفاهيم قد تكون مختلفة إلى حد ما. والمفهوم على الرغم من عموميته وعالميته مرتبط ببيئة أو ثقافة اجتماعية معينة ومرحلة تاريخية يعبر عنها، ولم يحاول هؤلاء المربون، كغيرهم من العلماء العرب، الاجتماع لصهر هذه المصطلحات وبوتقتها من جديد. وما زلنا في المشرق نعجز عن التفاهم مع إخوتنا في المغرب. ولا تزال المصطلحات أو المفاهيم في الأقطار العربية مطبوعة بتاريخها الاستعماري واجتهاد الأفراد فيها. فالبسط والمقام في الكسر مثلاً، يسميان بالتسمية المذكورة في البلاد التي خضعت للاستعمار البريطاني بينما يسميان بالصورة والمخرج في البلاد التي خضعت للاستعمار الفرنسي كـسورية. ومن المفارقات العجيبة أنه قد عمل في مدارس العراق في النصف الأول من القرن الماضي مدرسون سوريون ومصريون فكان لكل منهم مصطلحاته الخاصة مما جعل الطالب العراقي يعاني عندما تتغير جنسية مدرسه، كما عانى الطلبة الفلسطينيون والأردنيون الذين تابعوا دراستهم في جامعة دمشق بسبب من تعلمهم المسبق لمصطلحات مصرية لا يعرفها أو لا يقبلها الأساتذة السوريون. ناهيك عن أن لبعض الأساتذة مصطلحات تختلف عن مصطلحات زملائهم.
ومما يروى، أنه عندما كنت طالبا في كلية التربية بجامعة دمشق، أن الفاحص قد سألني في الفحص الشفوي في مادة علم النفس، وهو الدكتور فاخر عاقل، أمد الله في عمره، عن معنى "مفهوم" بالإنجليزية وكان سؤاله خارج الفحص، فأجبت لا أدري، فأخبرني أنه Concept فقلت له هذه تعني بالعربية "مدرك كلي" وكنت قد قرأتها في أحد الكتب المصرية فقال نحن في سوريا نترجمها "مفهوم".
ومما حدث معي أيضا، أنني قد وضعت في إحدى السنوات أسئلة مادة القياس التربوي لطلبة كليات المجتمع في الأردن، في الامتحان الشامل. فطلبت من المفحوصين أن يحددوا معنى "تقويم" وكنت قد عَرَّفْتُها على أنها تصحيح العوج وليس بيان قيمة الشيء. أما اللجنة الفاحصة فقد صححت على أنها تعني بيان قيمة الشيء، ولما رأت أن معظم الطلبة قد رسبوا في هذا السؤال، اضطرت لإعادة تصحيحه كما اقْتَرَحْتُ.
ويشكل استيراد المصطلحات بطريق المطالعة في اللغات الأجنبية مشكلة أخرى، إذ أن هذه المصطلحات تفرخ وتترعرع في بيئات متقدمة ثم نستوردها ولا مدلول أو مقابل لها عندنا، مثلنا مثل المختصين في علوم الذرة والفضاء والصواريخ. هذه العلوم تكاد تكون غير موجودة في بلادنا ومن الصعب علينا صياغة مفهوم لها أو فهم مفهوماتها ما دمنا لا نتعامل بها أو لا نستولدها أو نجهل كنهها فكيف نضع مفهوما لشيء لم يحدث لدينا بعد، وكيف نصوغ مصطلحا لشيء لم نَخْبُره ونمارسه أو نختبره.
ولعل مشكلة والمشاكل في المصطلح التربوي التي تعاني منها البلدان المتقدمة والمتخلفة على السواء هي اتكالية علم التربية أو اعتماده على العلوم الاخرى. فالتربية علم يمتح من علم النفس وعلوم الحياة والطبيعة والاجتماع والصحة والطب وغيرها من العلوم السلوكية والاجتماعية والإنسانية. وهو مضطر لاستعارة مصطلحاتها والاعتماد على منجزاتها ومكتشفاتها. ولما كان مجال التربية مختلفا كان لزاما عليها أن تعيد صياغة هذه المصطلحات أو أن تعدّ لها بما يتناسب مع واقعها ومعطياتها لكنها لم تقم بذلك مما ساعد على استمرار الاضطراب والغموض والإبهام، ناهيك عن أن هذه المصطلحات قد لا تكون واضحة أو مستقرة في ميدانها الأصيل.
ومما يزيد الطين بلة أن التربية تُعَرّف على أنها علم وفن. فإذا أخذنا بهذا التعريف زدنا مصطلحاتنا غموضا على غموض، إذ أن كل شيء في ميـدان الفن جائز. فبينما يتصف العلم بالدقة والموضوعية والعمومية فإن الفن يتميز بالفردية والخصوصية أو الذاتية مما يسهل السبيل إلى تشرذم المصطلحات وتجزئتها وتوقفها على من يعرّفها، أما في العلم فالمشكلة تكاد تكون غير قائمة لا سيما في الرياضيات والعلوم بفروعها المختلفة إذ أن الاختصاصيين بهما وضعـوا وطوروا لغة ومفاهيم خاصة تختلف عن لغتنا اليومية أو الأدبية، مـثل الرموز والمعادلات و الدساتير أو القوانين والمنطق الرياضي والتعريفات الرياضية بينما بقيت المشكلة قائمة في التربية إذ أننا نستعمل اللغة الدارجة أو المحكية أو الأدبية ولا نكترث بتحديد مفاهيمنا وتجويد مصطلحاتنا.
الدراسات السابقة
لم يعثر الباحث على دراسات حديثة بالعربية متعلقة بالمفهوم التربوي أو النفسي سوى دراسة مدبولي (1990م) المشار إليها سابقا والتي تتناول "تحليل المفهومات التربوية عند فلاسفة التربية التحليليين" هذا وقد أشار مدبولي الى أن دراسته هي الأولى من نوعها باللغة العربية، كما أشار الى مقال لعبد السميع أحمد بعنوان استخدام المفهوم كأداة للبحث (1986م) والى رأي ولســـون. ج. (1972م) والذي يقرر "أن الأزمة الحقيقة للبحث التربوي هي أزمة تشوش مفاهيمي وهي ناتجة ليس فقط عن طبيعة المجال ذاته، بل عن معاناة العلوم التي تعتمد عليها التربية من التشوش المنهجي أيضا"، والدراسات المذكورة هي دراسات تحليلية لم تتعرض لمنهجية وضع المصطلح التربوي. بيد أنه يوجد لدى المحدثين اهتمام عام بوضع المصطلح وقد أشار إلى ذلك محمد الصيادي (1982م) بقوله:
" ولا شك أنه لا يمكن التعبير بصورة لا إبهام فيها، عن بعض المفاهيم العلمية والتقنية باللغة العربية لفائدة الاختصاصيين الذين يهمهم الامر. والسبب في ذلك أن الفوضى السائدة في ميدان المصطلحات العلمية، حتى في حدود القطر الواحد، لم يقع القضاء عليها قضاءً كاملاً… وكثيرا ما نجد عدة كلمات رائجة تدل على الشيء نفسه. ثم إن للكلمة نفسها مدلولات متنوعة نجدها عند مؤلفين مختلفين وأحيانا للمؤلف نفسه. ومهما كان الأمر فان تقنين المصطلحات العلمية صار قضية أساسية في اللغة العربية الحديثة".
وتُلقي مقالة لمحمد فاضل الجمالي (1994م) "رأي في استعمال بعض المصطلحات" ضوءا على المشكلة، إذ يشير فيها إلى أن بعض الاقطار العربية تستعمل مصطلحات تختلف عمّا يستعمل في بلاد عربية اخرى، كما أن بعض هذه المصطلحات تعوزه الدقة أو الأمانة في التعريب. من ذلك" الأمَّتَان العربية والإسلامية" مع أن الدول العربية بدورها هي دول إسلامية. ويشير إلى أن ترجمة اسم الولايات المتحدة هي ترجمة خاطئة إذ أن كلمة State تعني دولة وليس ولاية. ومن المصطلحات الخاطئة أيضا "الاقمار الصناعية" وصوابها في رأيه "الاصطناعية"؛ ومصطلح "العلوم الصحيحة" شائع في المغرب وهي تشمل علوم الطبيعة، وعلوم الحياة، والفلك والرياضات وكل العلوم التي تستخدم الآلات والقياسات والتجارب العلمية، ويعلق قائلاً إن في هذا المصطلح انتقاصا لسائر العلوم. ويضيف أليس من الأفضل البحث عن كلمة أخرى مثل "الحسية" "الدقيقة" أو "المضبوطة"، ويذكر أن هناك من يعتقد بعدم وجود علوم صحيحة بالمعنى المطلق وأن العلوم الصحيحة هي ذاتها عرضة للتصحيح والنمو بتطور وتقدم البحث والاختراع. ومن المصطلحات التي يستعملونها في المغرب عامة "جامعة" بمعنى فرع فيقولون جامعة باريس ويقصدون بذلك فرع باريس كما أن جامعة تستعمل في الصحافة المغربية بمعنى جمعية فيقـال "جامعة كرة القدم" أو "جامعة كرة اليد" أو جامعة "تناطح الاكباش" ويتساءل أليس من الأفضل تخصيص استعمال جامعة للمعاهد العلمية العالية".
هذا وقد لاقى المصطلح اهتماما كبيرا من أجدادنا فقد عثر الباحث على دراسات فلسفية قديمة تهتم بالمفهوم أو المصطلح بلغة العصر الحاضر أو بالمقولات والتعريفات أو الحدود والرسوم بلغة القدماء من ذلك رسالة الحدود لجابر بن حيان (توفى 815م) والحدود والرسوم للكندي، ابو يوسف (ت866م) والحدود والرسوم للفارابي، ابو نصر (878-950م) ومفاتيح العلوم للخوارزمي الكاتب (ت977م) وهو غير الخوارزمي الرياضي الفلكي والمؤرخ، والمقابسات لابي حيان التوحيدي (ت، 1010م) والمبين للآمدي، سيف الدين (1156-1233)، .والتعريفات للجرجاني، السيد الشريف، على بن محمد (1339-1413م). والمصطلحات الواردة في هذه المؤلفات هي مصطلحات في الفلسفة والطبيعة والكيمياء وقد وردت بعض المفهومات النفسية كالروح والنفس والعقل والإرادة وهي أيضا مفهومات فلسفية. ومما يلاحظه المرء أن استعمالها في الوقت الحاضر قد تحول عن استعمالها القديم نظرا لتطور العلوم واللغة نفسها.
ومن المحدثين الذين اهتموا بتطور المصطلح الفلسفي عند العرب عبد الأمير الأعسم "1991"م كما اهتم علي سامي النشار (1978م) بمناهج البحث عند مفكري الإسلام وقد تناول في كتابه المقولات والحدود، كما حقق محسن مهدي كتاب الحروف للفارابي (1986م). وهو يدور حول الموضوع نفسه تقريبا .
هذا وقد وجد الباحث فصولاً في بعض كتب فقه اللغة تتعلق بكيفية نحت المصطلحات واشتقاقها كما في كتاب إبراهيم السامرائي (1978م)، وصبحي الصالح (1981م)، وهناك كتاب المصطلحات العلمية في اللغة العربية لمصطفى الشهابي (1955م)، ويجب ألا تنسى أن هنالك الكثير من الرواد الذين اخذوا على عاتقهم وضع المصطلح في تخصصاتهم وقد وضعوا في ذلك معاجم وكتبا قيمة.
ويجب أن ننوه أيضا بجهود مجامع بغداد ودمشق والقاهرة التي كرّست جهودها لوضع المصطلحات اللغوية والعلمية كما وضعت بعض المصطلحات التربوية والنفسية ألا أنها تعاملت معها على أنها مصطلحات فلسفية أما المجمع الأردني فقد كرّس موسمه الثقافي لعام 1994 لمعالجة وضع المصطلح العربي في مجالات أخرى غير التربية، وعلى الرغم من أن بعض أعضاء المجمع المذكور من التربويين إلا أن أحدا منهم أو من المدعوين لم يتعرض للمصطلح التربوي، بيد أن رئيس المجمع قد أشار في كلمته إلى أهمية المصطلح بشكل عام فقال:
" من يتابع مواسمنا الثقافية يلاحظ أنها جميعها يكاد ينتنظمها سلك واحد وهو جعل العربية لغة العلم والبحث العلمي… وفي الوقت الحاضر نرى شعوبا لا يتجاوز الناطقون بلغتها بضعة ملايين تدرّس العلوم بمختلف فروعها بلغاتها في حين أن جامعاتنا باستثناء السورية والسودانية، تدرّس هذه المواد باللغتين الإنجليزية والفرنسية. وهناك قضية تطرح الآن وهي قضية اختلاف المصطلحات حتى عند من يؤمنون بالتعريب. فقد يستعمل العالم في الرباط مثلاً مصطلحا مختلفا عن المصطلح الذي يستعمله العالم في القاهرة وبغداد ودمشق وعمان وعليه فمن الواجب، بقدر اهتمامنا بالتعريب أن نهتم بتوحيد هذه المصطلحات".
هذا وقد تناولت وقائع الموسم الثقافي لمجمع اللغة العربية الأردني وضع المصطلح العربي للأساتذة الدكتور فتحي الدريني من الجامعة الأردنية في علوم الفقه، والدكتور حسن حنفي من جامعة القاهرة في الفلسفة وعلم الكلام، والدكتور محمد صالحية من جامعة اليرموك، وقد تحدث عن وضع المصطلح العربي في التراث العلمي، والدكتور محمد هيثم الخياط من سورية وقد تناول منهجية وضع المصطلح العربي الحديث أما الدكتور تمام حسان من جامعة أم القرى- مكة فقد تحدث عن وضع المصطلح في النحو والصرف بينما تناول الدكتور أحمد مطلوب عضو المجمع العلمي العراقي وضع المصطلح العربي في البلاغة والنقد.
أهمية الدراسة
ترجع أهمية هذه الدراسة إلى أنها إحدى الدراسات النادرة التي اهتمت بالمصطلح التربوي في المجال الاسمي Nominal أو اللفظي، وقد أشرت سابقا إلى أن الدراسات التي عثرت عليها كانت في مجالات أخرى غير مجال التربية وعلم النفس. وتعتبر الدراسة مهمة من ناحية أخرى إذ أنها تلفت النظر إلى فوضى وضع المصطلحات في العربية وتبين الحاجة إلى وضع المصطلح بصورة صحيحة لتنشيط عمليات البحث والتعريب والتطوير التربوي والترجمة والتدريس والتقييم، وتجسير الهوة بين التنظير والتطبيق، كما تلفت النظر إلى أهمية تعمق الباحث في لغته القومية واللغة التي يترجم عنها.
ويأمل الباحث أن تقود دراسته إلى منهجية سليمة في وضع المصطلح ليستفاد منها في بحوث مستقبلية هذا بالإضافة إلى حسم الخلاف في قضية مصطلحي التقويم والتقييم والعمل على استقرار المصطلحات التربوية والنفسية. "
· يوجد في اللغة الدارجة أو المحكية مصطلحان هما تقويم وتقييم، والثاني أكثر شيوعا وجريانا على الألسن. والعوام عادة يفرقون بينهما في الاستعمال ولا يستعملونهما كمترادفين بل يستعملون "تقويم" بمعنى تصحيح الاعوجاج و "تقييم" بمعنى تثمين الشيء أو بيان قيمته ونادرا ما يُستعمل المصطلحان كمترادفين إلا من قبل المثقفين. ومع أن المشكلة تكاد تكون محلولة في التحدث إذ أن السامع يستوضح من المتكلم إذا كان هناك غموض أو إبهام، كذلك فإن المشكلة شبه محلولة في البحث إذ أننا نشترط على الباحث أن يعرّف مفاهيمه تعريفا إجرائيا، إلا أنها تبقى قائمة في مجال التدريس لاختلاف المدرسين. وبهذا الصدد ينقسم المربون إلى فئات ثلاث هي:
· فئة أهل القياس: وهؤلاء متزمتون يرفضون استعمال تقييم بدعوى عدم شرعيتها، ويخطِّئون من يستعملها بحجة أنها لم ترد في المعجمات بينما يصرون على استعمال مفهوم "تقويم" فقط كمصطلح علمي، لوروده في المعاجم القديمة. علما بأن معانيه متعددة مما ينفي صلاحيته لها الغرض.
· فئة السماعيين: هذه الفئة تصر على استعمال مفهوم " تقييم " لجريانه على الألسن وشيوعه أو ذيوعه، وبحجة الإبانـة والوضوح، وانعدام الالتباس والغموض، وانطباق قاعدة وضع المصطلحات العلمي عليه، وهي أن له معنى واحدا فقط على العكس من "تقويم" ذي المعاني العديدة.
· فئة الوسطيين: وهذه الفئة تستعمل مصطلحي التقويم والتقييم كمترادفين وأحيانا كمصطلحين مختلفين، مما يثير البلبة ويؤدي إلى الالتباس والغموض ولابد للقارئ من أن يخمّن المعنى المقصود مستعينا بالسياق.
وبالرجوع إلى المعاجم القديمة من لسان العرب لابن منظور، محمد جلال الدين (1232-1311) وإلى المنجد بحثا عن أصل هاتين الكلمتين، وجد الباحث كلمة تقويم فقط وهي مشتقة من الجذر أو الفعــل " قَوَمَ" ولا يفيدنا كمصطلح علمي لأنها لفظة لغوية لها معانٍ كثيرة: فهي تعني تصحيح العوج. وعن اللحياني قوّم درأه أزال عوجه، وقوّم السلعة حدّد ثمنّها، وتعني مجموعة قواعد لتقسيم الأزمنة كما في التقويم الزمني، وتستعمل بمعنى التقويم التربوي وهذا يستعمل بمعنيين أحدهما قياس تحصيل الطلاب وإصدار حكم على نتائجه أي يستعمل بمعنى قياس وتقييم معا والمعنى الأخر بيان أوقات افتتاح المدارس وإغلاقها ومواقيت الامتحانات والعطل الدراسية الرسمية ، ومنه أيضا التقويم الجامعي، وتقويم البلدان أي تعيين مواقعها وبيان ظواهرها، ويوجد بهذا الاسم مؤلف جغرافي لأبى الفداء (1273_ 1331م) قسّمه إلى مقدمة و28 جدولاً وفيه أصول الجغرافية ووصف 623 بلدا اسلاميا، وقد طبع في باريس عام 1837م، وفي درسدن عام 1842م .
وعليه ونظرا لتعدد معاني "تقويم" فإن هذه اللفظة لا تصلح للاستعمال كمفهوم علمي لمخالفتها قاعدة وضع المصطلح العلمي إذ يراد بها معان كثيرة، ويبقى لدينا كلمة " تقييم " وهي كمفهوم تنطبق عليه قواعد وضع المصطلح العلمي، إذ يمتلك معنى واحدا ويتصف بالإبانة والوضوح كما أنه جار على الألسن بيد أن المعاجم لا تعترف بشرعيته ولا يوجد له جذر أو فعل يشتق منه في جميع المعجمات القديمة.
2- الاستعمال في التراث القديم أو في عصور الاستشهاد " النصوص القديمة"
لقد وجد الباحث أن اثنين من الخلفاء الراشدين قد استعملا "تقويم" بمعنى تصحيح الاعوجاج. فهذا أبو بكر يقول في خطبته على أثر البيعة له وتوليه الخلافة: "أيها الناس! أنى قد وليت عليكم ولست بخيركم. فإن أحسنت فأعينوني، وان أسأت فقوموني.."
كما أن عمر بن الخطاب يقول في إحدى خطبه:" من رأى منكم اعوجاجا فيّ فليقوِّمه فيقول له إعرابي: "والله لو رأينا فيك اعوجاجًا لقوّمناه بسيوفنا". فيقول عمر: "الحمد لله الذي جعل لي أصحابا يقوِّموني إذا اعوججت" وفي رواية أخرى قال: "الحمد لله الذي جعل فيكم من يقوِّم عوجي ".
أما في الشعر فقد وجد الباحث أن شاعرا قد قال دون أن يذكر المؤلف من القائل وما المناسبة والعصر:-
إن الغصون إذا قومتها اعتدلت
ولن تلين إذا قومتها الخشب".
4- محك المعاقبة أو التعاقب: اللغة الحجازية
وهو مبدأ ذكره ابن سِيْده، أبو الحسن علي بن إسماعيل النحوي (1007-1066م) في المخصَّص ويبين فيه "كيف تدخل الياء على الواو، والواو على الياء من غير علة إما لمعاقبة عند القبيلة الواحدة من العرب وإما التربويين لافتراق القبيلتين في اللغتين، فأما ما دخلت فيه الواو على الياء، والياء على الواو لعلة فلا حاجة بنا إلى ذكره في هذا الكتاب لأنه قانون من قوانين التصريف". ومن أمثلة التعاقب جبيت الخراج جباوة، ثور ثِوَرة وثِيَرَة، ديوك وديكة، أحول وأحيل من الحيلة، داهية دهياء ودهواء فاح المسك يفيح ويفوح، أشاوي في جمع أشياء، مياثق في مواثق، المواثر والمياثر، مصاوب ومصايب، صُوَّم وصُيَّم، نوّم ونيّم، الأوبة والأبية، توهت الرجل وتيهته، يسيغ ويسوغ طعامه. كذلك جمعت العرب "نار" على أنور ونيران ونيار وأنوار ونيَرَه، كما جمعت "ريح" وأصلها روح على رياح ورِيَح بكسر ثم فتح، ورياح وأرواح، ورِيَح وأرياح لغة بني أسد..
ويقول إبراهيم أنيس عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة (1969م): "خلاصة هذا المبدأ أن العرب القدماء نظرا لاختلاف القبائل تعاقب في تصريفاتها بين الواو والياء فأهل الحجاز مثلاً كانوا يؤثرون استعمال الصورة المشتملة على الياء فيقولون صيّام بينما يقول البدو صوّام وهذه المعاقبة مطردة".
ونجد في المعاجم أمثلة كثيرة على التعاقب مثل قيَّاس وقوّاس، سيّاح وسوّاح بل نجد أمثلة أخرى خاصة بتعاقب أحرف أخرى غير الواو والياء مثل القاف والكاف ومثالها نيزك ونيزق وبالرجوع إلى معجم لسان العرب لاستكشاف التعاقب في مادة "قام" موضوع البحث وجد الباحث أمثلة كثيرة يمكن تلخيصها في أن الجذر قام أصله "قوم" ومنه القيام يقوم قوما وقياما وقومة وقامة وقيامة. ورجل قائم وجمعها قوّم وقُيّام وقِيَّام. وقامة الإنسان وقيمته وقومته، وقومِيَّتُه وقوامه. ونقول قَيِّم الأمر. وأمرٌ قيِّم وخلق قيّم وفي التنزيل الدين القيّم، وفيها كتب قيّمة، ويوم القيامة، وقَيِّم المكتبة وقيِّم المرأة أي زوجها، ومن أسماء الله الحسنى القيّوم والقيّام وقرأ عمر بن الخطاب الحي القيّام وهو لغة. والحي القيّوم، القائم بأمر خلقه وفي حديث الدعاء "ولك الحمد أنت قيّام السموات والارض"، وفي رواية قيّم وفي أخرى قيُّوم، ويفسر اللغويون التعاقب باختلاف القبائل كما يفسره إبراهيم السامرائي (1978م) في كثرة صيغ جموع التكسير، بتعدد اللهجات .
وبناء على مبدأ التعاقب وقياسا على ما قالته العرب يستطيع الباحث أن يفسر استعمال تقييم بناء على تعاقبها مع تقويم.
5- المحك الصرفي أو القياس.
أ. قاعدة توهم أصالة الحرف المتحول:
يراد بالتوهم مخالفة القياس، وترى إحدى لجان المجمع اللغوي بالقاهرة (1965م) "أن التوهم ضرب من ظاهرة لغوية فطن اليها المتقدمون ودعمها المحدثون ولهذا ترى اللجنة أن في وسع المجمع أن يقبل نظائر الأمثلة الواردة على أصالة الحرف الزائد أو المتحول، مما يستعمله المحدثون إذا اشتهرت ودعت إليها الحاجة"
ويذكر جميل علوش (1979م) في مقالة له، أمثلة على توهم العرب أصالة الحرف منها أن العرب قالوا ديَّمت السماء من الديمة، والديمة أصلها الدومة قلبت واوها ياء لوقوعها سَاكنة بعد كسر ولكنهم توهموا فيها أصالة الياء فأبقوها على حالها. كما قالوا عيَّد الناس من العيد، ولم يقولوا-عوَّد- مع أن أصل الكلمة من عاد يعود. ولكنهم توهموا أصالة الياء فأبقوها على حالها.
ولعلهم لم يقولوا عوَّد بالواو خشية أن تلتبس بما هو مشتق من العادة. وقالوا أعياد ولم يقولوا أعواد خشية التباسها بأعواد الحطب. ومن الأمثلة التي ذكرها تزيا من الزي وأصلها الزوي قالوا زييته والقياس زويته وثيبت المرأة ولم يقولوا ثوبّت لأنهم توهموا أصالة الياء فأبقوها على حالها. كما قالوا: تديَّر البقعة أي اتخذها دارا والقياس تدوَّرها لأن أصلها الواو ولكنهم توهموا فيها أصالة الياء ثم يضيف والقيمة واحدة القيم وأصلها الواو لأنها من قام يقوم. والقيمة ثمن الشيء بالتقويم. ولنا الحق كل الحق أن نشتق منها التقييم فنقيسها على ما سلف من الأمثلة من أصول اللغة". وقد استشهد في بداية مقالته بقول ابن جِنّي أبي الفتح، عثمان (942-1002م): " كل ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب".
وقد نسب إبراهيم أنيس (1969م) هذا القول إلى أبي علي الفارسي (ت987م) أستاذ ابن جِنّي كما نسبه هذا في كتابه الخصائص إلى أبي عثمان فقال: "وقد نص أبو عثمان عليه فقال: ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب. ألا ترى أنك لم تسمع أنت ولا غيرك اسم كل فاعل ولا مفعول وإنما سمعت البعض فقِست عليه غيره، وإذا سمعت "قام زيد"، أجزت، ظَرُفَ بِشر وكرُم خالد". وهو يقصد بأبي عثمان، المازني النحوي البصري (ت863م) صاحب كتاب التصريف والذي شرحه ابن جنّي في كتابه المنصف.
ب. قاعدة الاشتقاق من المشتق.
يقول محمد خليفة التونسي (1986م): "القاعدة الصرفة العامة في اشتقاق أي كلمة هي الرجوع إلى جذورها، ولكن لوحظ أن العرب خالفت هذه القاعدة فاشتقت من المشتق على ما هو عليه، ولو تغير عن الجذر بما يسمى إعلالا أو قلبا بزيادة حرف فالجذر "ع و د" اشتق منه "عيد" بالإعلال ثم أخذ من "عيد" الجمع "أعياد" ومصدره "التعييد" وقيس على ذلك حديثا كلمة "قيَّم تقييما" أخذا من قيمة مع أن الجذر "قوّم" للتفرقة بين تقييم الشيء بمعنى معرفة قيمته، وبين تقويمه بمعنى جعله قويما. وهذه الظاهرة اللغوية يسميها بعض نحاتنا الاشتقاق على "التوهم" ونحن نؤثر تسميتها "الاشتقاق من المشتق" وعبارتنا أدق وأوضح لأن قائل "أعياد وعيد تعييد" قد لا يكون متوهما أن الياء في عيد أصلية في الجذر ولكنه عدها كأنها أصلية وإن كان يعرف أن اصلها واو ولكنه أراد أن يفرق بين الأعياد التي يحتفي بها الناس، وبين العادات التي مرنوا عليها، أو بينها وبين "الأعواد" من النبات، والأعواد الموسيقية. ووجوب إزالة اللبس في الكلام والكتابة في مقدمة القواعد في كل اللغات واللهجات...
هذا وقد سبق للعلامة محمد بهجة الأثرى (1969م) عضو المجمعين: العراقي والمصري أن أدلى برأي مشابه فقال: "العيد فإن أصل يائه الواو، وصيغة هذا الأصل "العِوْد" فقلبوا الواو ياء ليفرقوا بين الاسم الحقيقي والاسم المصدري، وألزموا الياء في الواحد، فصارت أصلا جديدا في بناء مادته، وجمعوه علــى "أعياد" ليفرقوا بذلك بينها وبين أعواد الخشب كما قالوا في تصغيره "عُييْد" ليفرقوا بينه وبين العود". ويرى ابن جِنّي، أنه يجب مراعاة حال المفرد في الاشتقاق، فيقول: "من ذلك مراعاتهم في الجمع حال الواحد، لأنه أسبق من الجمع، ألا تراهم لما أُعلَّت في الواحد، أعلوها في الجمع نحو قيمة وقيم ولما صحت في الواحد صححوها في المجمع فقالوا: زوج وزِوَجة، وثور وثِوَرة" أي بكسر الفاء وفتح العين في الميزان الصرفي في حال الجمع.
وبناء على مر نقول انه بإمكان الباحث اشتقاق "تقييم" من قيمة بناء على قاعدة الاشتقاق من المشتق التي أتى بها التونسي وقياسا على ما قالته العرب مثل عيد وديمة وما اشتق منهما، وذلك منعا لالتباس تقييم بمعنى تحديد القيمة، بتقويم التي تعني التعديل أو التصحيح.
وإذا عدنا إلى ابن جِنّي في اختلاف اللغات وكلها حجة فإن فذلكة قوله أو مجمله ما يأتي:
1. في اللغتين المتقاربتين في قوة القياس وسعة الاستعمال يمكنك أن تأخذ بإحداهما.
2. وإذا كانتا متباعدتين في القياس والاستعمال فيمكنك أن تأخذ باللغة العليا.
3. أما الدنيا فيمكنك الأخذ بها لضرورة في السجع أو الشعر.
4. ولا مانع من أن تأخذ بها في حالة السعة والاختيار شريطة التصريح بأنك أخذت بها.
ويلخص ابن جِنّي ما فصّله بقوله: "كيف تصرفت الحال فالناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ وإن كان ما جاء به خيرا منه". وفي الباب الذي عقده ابن جِنّي في الخصائص لتعارض السماع والقياس يصرح بأن التميمية أكثر مراعاة للقياس من القرشية ويبين الفرق بين ما كان أقوى قياسا وما كان أكثر استعمالاً فيقول:
"وإن شذّ الشيء في الاستعمال وقوي في القياس كان استعمال ما كثر استعماله أولى وان لم ينته قياسه إلى ما انتهى إليه استعماله… ويضيف إلا أنك إذا استعملت أنت شيئا من ذلك فالوجه أن تجمله على ما كثر استعماله، وهو اللغة الحجازية، ألا ترى أن القرآن نزل بها!، وأيضا فمتى رابك في الحجازية من تقديم خبر أو نقض لنفي فزعت إذ ذاك إلى التميمية فكأنك من الحجازية على حرد وإن كثرت في النظم والنثر".
هذا ويروي جورجي كنعان (1990م) عن ابن حزم "أن السريانية (الآرامية) والكنعانية والعربية لغة واحدة وأن من تدبر هذه الألسن أيقن أن اختلافها إنما هو من تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان واختلاف البلدان ومجاورة الأمم. وأنها لغة واحدة في الأصل"، ويضيف ج. كنعان في مكان آخر "وفي صيغ الأفعال نقول في الفصحى قوَّم ونوَّم. وفي المحكية قيَّم ونيَّم طبقا للآرامية" وهذا يعني أنه بإمكاننا القول أن كلمة تقييم كلمة أصيلة فصيحة قد ورثناها من جذرها (ق ي م) ولذا لا ضير في استعمالها ولا ضرورة للتشكك في شرعيتها.
د. تدرج اللغة
لقد عالج ابن جنّي مسألة القياس والتوهم في "باب في تدرج اللغة" في كتابه الخصائص فقال: "وذلك أن يشبه شيء شيئا من موضع فَيُمْضَى حكمه على حكم الأول ثم يُرقّى منه إلى غيره… مـن ذلك قولهم: صِبْيَة، وصِبْيَان؛ قلبت الواو من صبوان وصبوة في التقدير لأنه من صَبَوْت- لانكسار الصاد قبله، وضعف الباء أن تعتد حاجزا لسكونها. فلما أُلِف هذا واستمر تدرجوا منه إلى أن اقروا قلب الواو ياء بحاله وإن زالت الكسرة، وذلك قولهم صُبْيان وصُبية (بضم الصاد وتسكين الباء) وقد كان يجب لما زالت الكسرة، أن تعود الياء واوا إلى أصلها، لكنهم أقروا الياء بحالها لاعتيادهم إياها حتى صارت كأنها أصلاً. وحسّن ذلك لهم شيء آخر، وهو أن القلب في صِبْيَة وصِبيان إنما كان استحسانا وإيثارا لا عن وجوب علة، ولا قوة قياس فلما لم تتمكن علة القلب ورأوا اللفظ بياء قوي عندهم إقرار الياء بحالها؛ لأن السبب الأول إلى قلبها لم يكن قويا مما يعتاد في مثله أن يكون مؤثرا ويقول ابن جنّي أيضا في الباب نفسه: "ومن التدرج في اللغة قولهم ديمة وديم واستمرار القلب في العين (أو الواو) للكسرة قبلها، ثم تجاوز ذلك لما كثر وشاع إلى أن قالوا دومت فعلى القياس، وأما ديمت فلاستمرار القلب في ديمة وديم… ثم قال: وجماع هذا الباب غلبة الياء على الواو لخفتها فهم لا يزالون تشبثا بها وبحثا عنها، واستثارة لها، وتقربا ما استطاعوا منها ".
وبناء على ما مر، فإن قيمة وقيم تشبهان ديمة وديم في استمرار القلب في عين الميزان الصرفي (فعلة، فعل) أي في الواو. وعليه فانه يحق لنا أن نقول قيّمت المتاع فتقيم قياسا على ديمت السماء. لأن التدرج فيهما واحد. ومنعا للالتباس مع تقويم لأن هذه تعني أيضا تصحيح العوج، وكذلك تطبيقا لقاعدة الاشتقاق من المشتق التي أشار إليها محمد خليفة التونسي، واستحسانا وإيثارا لها كما يرى ابن جِنّي.
هـ. قاعدة منع الالتباس
يود الباحث أن يشير إلى أنه عند وضع مصطلح لا يجوز أن يراد به سوى معنى واحدٍ منعا للالتباس والغموض، وقد وجد الباحث في كلام العرب ما يدعم هذه القاعدة بقوة ويمكن أن نشير إلى الأمثلة السابقة في عصور الاستشهاد أو قبل ذلك، ومنها أمثلة "عيد، نار، ريح" وللتوضيح فقط نقول أن العرب قد قالت "ع و د" ولم تقل "ع ي د" واشتقت منه "العيد" وكان يجب أن يقولوا "العود" لكنهم لم يقولوا ذلك منعا للالتباس بعود الحطب أو عود الموسيقي أو العَودْ كم في المثـل "العَوْدُ أحْمَدُ" أو بمعنى العيادة أو العادة أو المعاد والتعود، وجمعوا العيد على أعياد ولم يجمعوه على أعواد وفي تصغير العيد قالوا "عُييْد" ولم يقولوا "عويد" بهدف منع الالتباس. ومن الأمثلة الحديثة يمكن أن نضرب مثلاً بالفعل ساس يسوس سياسة وقد قلنا "تسييس" وكان أحق أن نقول "تسويس" لكننا لم نفعل ذلك خشية الالتباس بتسويس الخشب. ومن الأمثلة التي يمكن أن نسوقها أيضا قيادة، وقوادة؛ وقد قالت العرب ديمت السماء ودومت الطيور. وكذلك جمعت بعض القبائل العربية كبني أسد ريحا وأصلها "روح" على رياح، وأرياح، وأراييح لئلا تلتبس "بروح، أرواح" ومن ذلك أيضا "نار" فقد جمعت على أنور، أنوار نيرة بكسر ثم فتح ونيران ونيار وأينار، مع أن أصل الألف في مادة "نار" الواو، ولا شك أننا كمحدثين نأنف من جمعها على أنوار وأنور لئلا تلتبس بالأضواء، كما أننا لا نستسيغ جمعها على نيار وأينار لأنها تلتبس بجمع النّيرة والنّير ويمكن أن تكون هذه الجموع من لغات عربية مختلفة لكننا نختار منها ما يمنع اللبس فنحن مثلاً نكتفي بجمع نار على نيران ونستعمل أنوار بمعنى أضواء ونيرة للثة الأسنان وأنيار كجمع لنير أي مقرن الثورين أو الخشبة المعترضة التي توضع فوق عنقي ثوري الحراثة ليربط بها عود الحرث.
و. الإعلال والإبدال
1- الإعلال بالقلب
يرى الصرفيون أن الواو تقلب ياء في عشرة مواضع أو أحد عشر موضعا و يهمنا منها القواعد التالية:
· تقلب الواو ياء: إذا كانت عينا لمصدر، أعلت في فعله، قبلها في هذا المصدر كسرة وبعدها ألف فالشروط أربعة وإذا أخذنا تقويم وميزانها الصرفي "تفعيل" نجد أن الواو عين المصدر وأنها أعلت في الفعل (قام أصلها قَوَم) ولم يتحقق الشرطان الأخيران. فلا توجد قبلها كسرة مع أنها هي مكسورة، ولا بعدها ألف. بيد أن الباحث سيحاول تخريج المسألة بعد ذكر قواعد أخرى ليستعين بها في حل المشكلة.
· وتقلب الواو إلى ياء إذا وقعت عينا لجمع التكسير، صحيح اللام وقبلها كسرة وهي معلة في مفرده مثال ذلك قيمة وقَيِم وأصلهما قِوْمة وقِوَم . لقد قلبت الواو إلى ياء لأنها جمع تكسير صحيح اللام وقبلها كسرة وهي معلّة في المفرد إذ أن قيمة أصلها قِوْمةَ فقلبت الواو هنا إلى ياء لوقوعها متوسطة وساكنة إثر كسرة. وبناء على قول ابن جنّي والأَثَري السابق ذكرهما فان الياء هنا لزمت في الواحد واعتبرت أصلاً جديدا في مادته ثم اشتققنا منها تقييم بناء على قاعدة الاشتقاق من المشتق التي ذكرها التونسي.
· وتقلب الواو ياء إذا اجتمعت هي والياء في كلمة واحدة بشرط ألا يفصل بينهما فاصل وأن يكون السابق منهما أصيلاً (أي غير منقلب عن غيره) وساكنا سكونا أصيلاً غير عارض فإذا تحققت هذه الشروط وجب قلب الواو ياء، نحو: سيّد وميّت وديّار وقيّام فالأصل هنا سَيْود ومَيْوت وديوار وقيوام. وقد اجتمعت الواو والياء في "تقويم" ولم يفصل بينهما فاصل، والسابق منهما أصيل بيد أن الشرط الرابع وهو السكون لم يتحقق. ومن دعاة هذه القاعدة سيبويه (ت796م) إمام مذهب البصريين، أما الفرّاء (761-822) إمام لغويي الكوفة فله رأي آخر ورايه كما ورد في اللسان في مادة قوم هو "أن القيم من الفعل فعيل أصله قويم وكذلك سيّد سَويد وجيّد جَوِيد وكان يلزمهم أن يجعلوا ألفا لانفتاح ما قبلها ثم يسقطوها لسكونها وسكون التي ما بعدها فلما فعلوا ذلك صارت سيْد على فَعْل فزادوا ياء على ياء ليكمل بناء الحرف" أي ليكمل بناء الكلمة.
ويقول ابن جنّي في كتابه المنصف: "إذا جاور الشّيءُ الشيءَ دخل كثير من أحكامه لأجل المجاورة، نحو قِنيْة، صِبْية، عِلْية من قَنوْت، صَبوْت، عَلوْت وقياسه قِنْوة، صِبْوة، عِلْوة، ولكن لما جاورت الواو الكسرة قبلها صارت الكسرة كأنها قبل الواو ولم يعتد الساكن حاجزا لضعفه".
ويمكن أن نخرّج تقييم من تقويم بناء على رأي ابن جنّي في القاعدة السابقة بقولنا: لقد تحركت الواو في تقويم وتحرك ما قبله، إذ لا يُعْتَدُّ الساكن وهو القاف حاجزا لضعفه، ولما جاورت الواو الفتحة دخلت في حكمها فقلبت الواو ألفا ثم أسقطناها لاجتماع الساكنين لأن الألف ساكنة دوما ثم زدنا ياء ليكمل بناء الكلمة. وبحسب رأي الفرّاء الذي يلتقي مع رأي ابن جنيّ أيضا وهو: يلزمنا أن نجعل الواو في تقويم ألفا لتحريك ما قبله إذ لا يعتبر القاف حاجزا لأنه ساكن ثم أسقطنا الألف لالتقاء ساكنين وزدنا ياء على الياء ليكمل بناء الكلمة. وهذا ويمكن أن نخرِّجها بطريقة أخرى وهي أن الواو والياء اجتمعا في تقويم ولا يفصل بينهما فاصل ولما كان النطق بالياء أسهل من النطق بالواو أو لما كان العرب يستثقلون النطق بالواو ويستخفون النطق بالياء، كذلك لما كانت حركة الواو وهي الكسرة أنسب للياء وكانت الواو مجاورة للياء قلبت الواو ياء لتسهيل النطق ومنعا لالتباس معنى تقييم بمعنى التقويم ولأجل المجاورة أيضا.
2- الإعلال بالنقل
يقول عبد العزيز عتيق (1971م) في كتابه المدخل إلى علم الصرف: "إذا كان عين الكلمة واوا أو ياء وقبلها صحيح ساكن وجب نقل حركة العين إلى ساكن الصحيح قبلها، وذلك لاستثقالها على حرف العلة نحو يقوم، الأصل يَقْوُم بضم الواو فنقلت حركة الواو إلى ساكن قبلها وهو قاف يقوم فسكنت الواو… وإذ نقلت حركة العين إلى الساكن الصحيح قبلها فتارة تكون العين مجانسة للحركة المنقولة، وتارة تكون غير مجانسة لها… وإن كانت عين الفعل غير مجانسة للحركة المنقولة أبدلت العين حرفا يجانس الحركة… ومن أمثلة عدم مجانسة العين للحركة المنقولة، يخيف أصلها يُخْوِف ثم حدث فيها إعلال بنقل حركة الحرف المعتل إلى الساكن الصحيح قبله، فصار يُخِوْف ولعدم تجانسه حرف العلة لحركة الساكن الصحيح قبله، قلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة فصار الفعل يخيف" وقد توافرت جميع شروط الإعلال بالنقل: "وهي أن يكون الساكن المنقول إليه صحيحا وألا يكون الفعل المعتل العين فعل تعجب، وألا يكون من المضّعف، وألا يكون من المعتل اللام".
ويمكن أن نقيس على ذلك في تقويم إذ تتوافر في فعله جميع شروط الإعلال بالنقل، والقاف حرف صحيح ساكن والواو حرف متحرك نقلت حركته للقاف لاستثقالها أو لعدم مناسبة الكسرة للواو فسكنت الواو، ولما كانت غير مجانسة للحركة المنقولة أبدلت بالياء لأنها تناسب الكسرة وتجانسها فأصبحت "تقييم". كذلك يمكن أن نمزج الإعلال بالنقل بالإعلال بالقلب فنقول: بعدما نقلت حركة الواو إلى الصحيح الساكن قبلها وهو القاف فأصبحت القاف مكسورة والواو ساكنة فحق عليها القلب إلى ياء لأنها سكنت بعد كسر، وكذلك لتسهيل النطق بها.
6- اختلاف مصادر الاشتقاق
اللغة العربية الفصحى مزيج من عدة لغا