عاش السكاكيني في فترة مهمة وحرجة من فترات التاريخ الفلسطيني الحديث، وذلك لغناها بالأحداث سياسيا وفكريا واجتماعيا وأدبيا. فمنذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى ما بعد الحرب الثانية كانت الساحة تمور بحركات تبشّر بالتململ العربي، وتؤشّر على فهم ووعي للأطماع الاستعمارية والصهيونية، وتشي بنهضة ثقافية، علمية، أدبية، تجلت في عدد كبير من المظاهر، وبالانفتاح على الغرب وعلى حضارته، وبترسّخ الشعور القومي عند العرب.
أما الناحية الأدبية- وهي الأمر الذي يعنينا في هذه العجالة - فكانت انعكاسا لما ذُكر. فمع انتهاء القرن التاسع عشر بدأت معالم النهضة الأدبية في فلسطين تظهر جليّا. تشهد على ذلك كثرة المطابع والصحف والنوادي والجمعيات والمكتبات والمسارح، وانتشار التعليم. كما يشهد على ذلك أيضا ذلك الصراع الحاد الأدبي الذي دار على الساحة الأدبية في حينه بين أنصار التقليد المشكولين بإسار الماضي، وبين أنصار التجديد الذين ثقفوا مبادئ الغرب فطمحوا إلى مستقبل أدبي جديد يلائم روح العصر. شملت هذه المعركة، بين دعاة التقليد وبين دعاة التجديد، كل نواحي الحياة الثقافية بما في ذلك الأدب شعرا ونثرا.
وكان خليل السكاكيني ثمرة هذه الأحداث جميعها، فما أن شبّ حتى وجد الصراع في أوجه، فخاض فيه بكل ما يملك من قوة، وجنّد له كل معارفه وأدواته العلمية، ووقف مدافعا عن التجديد لا تفتر له همة ولا تثنيه عنه مشكلة مهما كبرت، وقد كرّس لهذا الصراع عمره الأدبي والزمني. من هنا صارت للرجل تلك الشهرة وذلك الاسم الرفيع.
ونحن في هذه الدراسة السريعة نحاول جاهدين اختراق عالم السكاكيني الأدبي على تنوّعه وغناه، لنجلُوَ موقفه هذا الداعي إلى التجديد والواقعية شعرا ونثرا. تاركين الجوانب الأخرى التي لوّنت حياته للغير. ولكن، ونحن نحاول ذلك، يجب أن نعترف بالصعوبة التي يواجهها الباحث عن هذا الجانب في أدب السكاكيني، ومردّها يرجع في رأيي إلى أمور ثلاثة هي:
1. كون السكاكيني أديبا موسوعيا شموليا شأنه في ذلك شأن سائر الرواد الأوائل في عصر نهضتنا، بحيث يصبح الفصل بين الأجناس الثقافية والمواضيع التي عالجها أمرا في غاية الصعوبة.
2. قلّة الآثار الأدبية التي تركها السكاكيني ومردّ ذلك، كما يقول الدكتور إسحق موسى الحسيني[1]، يرجع إلى:
أ. اهتمامه بالتربية والتعليم.
ب. تغيبه عن الوطن مكافحا في سبيل العيش مدة زمنية ليست قصيرة.
ت. ظروف فلسطين القلقة التي شرّدته وجعلته يكرّس معظم وقته للكفاح الوطني.
من هنا فإن ما كتبه السكاكيني من مقالات أدبية لم يُجمع في معظمه بل ما زال مبثوثا في ثنايا الصحف التي كان ينشر فيها عربيا وفلسطينيا، ولكننا رغم ذلك نستطيع أن نتابع آراءه الأدبية وأدبه الإبداعي من خلال عدد من المقالات الموجودة في ثلاثة من كتبه هي:
أ. مطالعات في اللغة والأدب، القدس 1920. وهو دراسات نقدية لغوية.
ب. ما تيسر، في جزأين، القدس 1943، 1946، وهو أبحاث أدبية أخلاقية.
ت. كذا أنا يا دنيا، يومياته التي جمعتها ابنته هالة وصدر في القدس، 1955.
3. كان السكاكيني في معظم ما كتبه ميالا إلى اللغة أكثر من ميله إلى الأدب. من هنا تفتقر الدراسات التي عالجت أدبه إلى النصوص ما عدا تلك الموجودة في يومياته "كذا أنا يا دنيا" الكتاب الذي سبق ذكره. أضف إلى ذلك أن كتب السكاكيني الأخرى لا يتيّسر الحصول عليها.
من خلال استقرائنا لحياة السكاكيني وإنتاجه نستطيع أن نقول إن عوامل عديدة تضافرت في تكوين شخصيته الأدبية منها:
1. تعلّمه في مدرسة الشبان الإنكليزية، حيث درس العربية على أستاذه نخلة زريق. ونخلة زريق هو أحد أعلام نهضتنا الأدبية الحديثة، لما كان يتمتع به من معرفة وثقافة ومن روح وطنية وميل إلى الرقي. لقد طغت شخصية نخلة زريق وثقافته ووطنيته على السكاكيني، فكان مثاله الأعلى.
أحب زريق التعليم فورثه عنه السكاكيني، كما ورث عنه حب المعرفة والأدب واللغة والوطنية والثقافة. يقول السكاكيني عن أستاذه: "ومع أن صناعة التعليم كانت ولا تزال محتقرة ممقوتة، ودخل أكبر أستاذ فيها لا يسمن ولا يغني من جوع ولا يسد من عوز، مع كل ذلك آثر أن يكون معلّما وأنفق شبابه وصحته بل امتنع عن الزواج في سبيل خدمة البلاد"[2].
"كان بطلا لأنه استطاع بنفوذه وشخصيته الراقية أن يجعل من تلك المدرسة الأجنبية- مدرسة الشبان- مدرسة وطنية تخرج مبشرين بالوطنية كما تخرج مبشّرين بالدين. كان بطلا لأنه استطاع أنْ يبث في تلاميذه روحا عالية على حين كان يقصد بالتعليم قتل الحياة"[3].
2. تأثره الكبير بالمتنبي وبالفيلسوف الألماني نيتشه بشكل خاصّ. يقول: "استحكمت فيَّ لأول عهدي بالحياة فلسفة سوداء أحسست معها وأنا لا أزال فتى دبيب الهرم في نفسي وجسمي، إلى أن طالعت فلسفة نيتشه فيلسوف القوة والحياة في هذا العصر، مترجمة بقلم فرح أنطون فانتفضت وزال القبر والكفن وعدتُ إلى الحياة، فالحمد لله أولا ولنيتشه وفرح أنطون ثانيا. وهنا لست أنسى فضل شاعرنا الأكبر شاعر القوة أبي الطيب المتنبي نيتشه العرب فقد استمددت ولا أزال أستمد من شعره القوة والحياة"[4].
3. رحلاته المتعددة إلى العالمين العربي والغربي. بما في ذلك أمريكا، وزياراته للمكتبات والنوادي الأدبية ومجامع اللغة. كلّ ذلك أثر فيه وفتح عقله على الجديد كي يلحق بالأمم المتحضرة.
هذه المؤثرات التي ذكرتها جعلت من السكاكيني إنسانا عفيف النفس مؤمنا بالقوة عقلا ونفسا، مؤمنا بالفرح وبالصبر وبعزة النفس وحب الوطن والناس، وقد انعكس كل ذلك في آرائه التربوية وفي مواقفه الحياتية كما انعكس في أدبه، ومن هنا نعثر على المبرر لثورته على الجمود وعلى التقاليد البالية وعلى كل ما يعيق التقدم سياسة ودينا واجتماعا وأدبا.
ولكن ما يهمنا في هذه العجالة هو المسار الأدبي للرجل. في الواقع لا نستطيع أن نعتبر السكاكيني أديبا بالمعنى الفنّي للكلمة، ولكنه رجل عاش في زمن كان الأدب فيه جزءا من شمولية المعرفة، لذا مارس الأدب كمكمّل لموسوعيته الثقافية المعرفية.
ينقسم أدب السكاكيني إلى أربعة أجناس:
1. الشعر.
2. فنّ المقالة.
3. النقد، ويشمل ذلك آراءه في اللغة والأدب.
4. أدب اليوميات.
ولكن قبل أن نتحدث عن هذه الأجناس الأربعة نرى لزاما أن نلقي نظرة سريعة على حالة هذه الأجناس قبل السكاكيني وذلك كي نقف على مساهمته في تطوير هذه الأجناس وفي رفعها إلى مسارات ومسارب التجديد.
اتّسمت الفترة التي نحن بصددها بما يلي:
1. كان النظام الإقطاعي يحيط بها إطارا اقتصاديا وسياسيا.
2. كان المحتوى الديني يتشكّل بأشكال هذا الإطار.
لذلك نجد هذه الفترة يغلب على ثقافتها الطابع الديني، فقد كان التعليم فيها يصدر عن رجال الدين وحتى المدارس الإرسالية لم تكن تقوم إلا على رجال الدين الأجانب الذين كان همهم نشر الدين كغرض أساسي. ولعلّ أرقى مدرسة في تلك الفترة وأشبهها بمدرسة وطنية هي مدرسة الشّبّان التي درس فيها السكاكيني وتعود أهمية هذه المدرسة إلى الأستاذ نخلة زريق الذي ذكرناه سابقا.
هذا الإطار الإقطاعي وهذا المحتوى الديني صبغا النّتاج الأدبي في هذا العصر بلونهما، فلذلك ليس من الغريب أن نجد الأدب في هذا العصر لا يصدر إلا عن رجال الدين مسلمين ومسيحيين، وأن نجد المضمون مثقلا بتلك القيم الدينية التي كان الإقطاع يروّج لها في تلك الفترة الزمنية. مثّل هذا اللون جرجي عطية الذي كان أستاذا في سمنار بيت جالا، والقس الناصري إلياس مرمورة، والشيخ يوسف النبهاني من إجزم، والشيخ عباس الخمّاش من نابلس، ويوسف أسعد من القدس، والشيخ سليم أبو الإقبال اليعقوبي. هؤلاء من أشهر شعراء تلك الفترة وكتابها. كلهم أخذوا قسطا وافرا من الثقافة الدينية، وكلهم جنح إلى القيم الدينية، لذلك كانت أغراضهم متسمة بهذه السمات. وكما كانت المضامين كانت اللغة أيضا قوالب جاهزة مكرورة مستمدة من القديم لأن الهدف إثبات القدرة اللغوية، وذلك لأن نظم الشعر والكتابة آنذاك كانا من أدلة النبوغ والوجاهة العلمية[5].
أمّا النقد الأدبي فقد كان كالأدب "فهو أقرب إلى التقريظ، يقوم على اللغو والثرثرة اللفظية الأنيقة، يخلو من نظرة نقديّة جادّة، دون الاستناد إلى قاعدة الذوق أو مقاييس الجمال الفني أو نظريات نقدية. كان خاليا من التحليل والتعليل ومن ربط الأدب بالحياة وهو توأم للأدب في ذلك العصر من حيث تعمّد الزخرف البديعي والصنعة البيانية"[6].
ولكن مع إطلالة القرن العشرين وخاصة بعد إعلان الدستور عام ألف وتسعمائة وثمانية، أُطلقت بعض الحريات وبدأنا نلمس تململا سياسيا وطنيا انعكس على الأدب، ومع انتشار أسباب الثقافة كالصحف والمدارس، وازدياد عدد المتعلمين، خاصّة أولئك الذين تخرجوا من مدارس أجنبية، نشب صراع بين ممثلي القديم والمُحدثين الجدد ودعاة التجديد، دار هذا الصراع على الأفكار والأسلوب والأدوات، وقد شكّل بعض الأدباء ريادة هذا الصراع كروحي الخالدي، وخليل بيدس، ونخلة زريق، الذين هاجموا الأسلوب القديم، وعابوا عليه تكراره وابتعاده عن الواقع، وتعشّقه للعبارة المزوّقة، وتكلّف الصنعة والاهتمام باللفظ وبالشكل لا بالمضمون، وحصر الأدب على الخاصة. ويكون هؤلاء الرواد بما خاضوه من معارك وبما حاولوا بثه من آراء في التعليم وفي الصحف قد شقّوا الطريق أمام السكاكيني لاستمرار المعركة من أجل أدب جديد واضح المنهج محدد الغرض، يلتصق بهموم الناس وبآمالهم، يُستمدّ من الواقع.
والسؤال الذي ينطرح: هل استطاع السكاكيني حمل لواء هذا الأمر؟ مع العلم أن الجو لم يكن صافيا بعد، بل على العكس فقد ظل الأكثرية متمسّكين بالقديم، من هؤلاء مثلا شكيب أرسلان وإسعاف النشاشيبي اللذين يمثلان الخط النقيض للسكاكيني.
في الواقع أن أهم ما فعله السكاكيني في حياته الأدبية هو دعوته للتجديد، ليس فقط في مجال الأدب وإنما في مجالات الفكر عامة، ولكن طالما أن حديثنا يدور على الأدب سنحاول تتبع آرائه لنقف على دعوته الصارمة للتجديد والتي وقف وراءها مكافحا بلا تنازلات، هادفا إلى أمرين:
الأول، تخليص اللغة والأدب من كلّ الشوائب التي علقت بهما في المرحلة السابقة، وهو هدف علمي. والثاني، ينبع من خاصرة الأول وهو هدف وطني لأنه كان يؤمن بأن أقوى وشيجة في الأمة هي اللغة.
من مواقف السكاكيني المشهورة والتي تبرز دعوته إلى التجديد, موقفه من اللغة والأسلوب: فقد آمن السكاكيني بأن اللغة وسيلة لا غاية على عكس القدامى، كما آمن بالاعتماد على الأصالة والطبع في الأسلوب ونبذ التقليد والصنعة والتكلف. الأدب في مفهومه صورة للحياة والواقع يمثل العصر ويدل عليه ولا يكون خارج دائرة زمان ومكان صاحبه، لذلك فهو يدعو إلى الوضوح والابتعاد عن التعقيد والتقعر. من هنا هاجم الشعراء "الذين لا يستوحون عقولهم وقلوبهم بل يستوحون القدماء فيستعيرون معانيهم وألفاظهم كما هاجم ما شاع في عصره من استعمالات أدبية كالتضمين والاقتباس والتلميح وسائر البهلوانيات اللفظية".[7]
يقول: "إذا كان لا بد للكاتب أو الشاعر أن يستعير معاني غيره ويستعين بألفاظه فعليه إلا يسرف في ذلك. وإلا كان كلامه صدى مرددا، هذا إذا لم نُعدّه مسروقا، وعلى أن يكون ما يستعيره من المعاني وما يستعين به من الألفاظ مما يعينه ويقتضيه الحال الذي هو فيه وإلا فقد يكون ما يعنيه أو ما يقتضيه الحال شيئا وما يكتبه آخر وهذا هو التكلف بل الجمود والنفاق"[8].
ويقول أيضا مهاجما التكرار والترادف الشائعين في عصره: "ومما أُولع به أصحاب المذهب القديم إلى يومنا هذا تكرار الكلام في غير مواطن التكرار، والإسراف في استعمال المترادفات على غير حاجة إليها ولا فائدة، فهم لا يأتون بكلمة إلا أتبعوها بمرادفاتها..."[9]. ويخلص من هذا إلى أن استعمال مثل هذه المترادفات يدل على "نزارة المادة الفكرية".
كما أن السكاكيني كان فاهما لروح عصره، لذلك دعا إلى الإيجاز في الكتابة حيث يقول: "وأنت إذا تفقدت كلام العرب في أشعارهم وأمثالهم وخطبهم ورسائلهم علمت أنهم يميلون إلى الإيجاز... فما قولك في عصر كادت تغلب فيه لغة التلغراف"[10] كما أنه هاجم الشعراء والكتاب المولعين باستعمال الغريب حيث يقول: "بل كان منهم ولا يزال كثيرون من أولع بالغريب، فإذا رأى كلمة ورقة شائعة معروفة استعمل كلمة قرطاس، فإذا شاعت استعمل كلمة كاغد..."[11].
ثم هاجم التكلف بقوله: "إن الناس كانوا يميلون إلى التكلّف في الكتابة فصاروا يميلون إلى الأساليب الطبيعية... وليس شيء أثقل على الروح في هذا العصر من التكلف"[12].
كما هاجم الذين يستعملون التراكيب الجاهزة المحفوظة المعلبة التي لا حياة فيها ولا روح. يقول:" الحياة الحياة، إذا أردتم أن يكون لكم موسيقى أو غناء أو شعر أو أدب، بل إذا أردتم أن يكون لكم وجود فليكن فيه حياة وإلا فلستم إلا هياكل بالية"[13].
على اللغة أن تماشي الحياة في نموها وتطورها كي تصبح قادرة على التعبير عن كل شؤون الحياة وشجونها فتمثل العصر لأنها مرآته. يقول:" ثم إن هناك تراكيب أخرى لاكتها الأفواه حتى كادت تمجّها، ومع ذلك لا نزال حريصين على استعمالها لا نتحول عنها يمنة أو يسرة، وتلك حال تنذر بالويل وبالثبور"[14].
مما تقدم نستطيع القول: كانت للسكاكيني آراء نيّرة وثاقبة في اللغة والكتابة والشعر يوجزها الدكتور ناصر الدين الأسد بما يلي[15]:
"أ. اجتناب الألفاظ والتعابير التقليدية المتوارثة التي كانت تدل على معان حية في نفس قائليها الأوائل وفي بيئاتهم واستخدام الألفاظ التي تدل على حياتنا في عصرنا هذا.
ب. تجنب التطويل والتكرار واستخدام المرادفات، فعصرنا الحاضر عصر اقتصادي ينزع إلى الإيجاز والاختصار.
ت. تجنب الألفاظ الغريبة واستخدام الألفاظ القريبة المألوفة.
تجنب الاستعارات والتعبيرات الخيالية واللغة الشعرية، واستخدام الألفاظ المحددة الدلالات الواضحة المعاني، التي لا تقبل الزيادة أو النقصان، بحيث تقرر بها الحقائق.
ث.العناية بالمعنى أولا فهو الغاية وليست اللغة سوى الوسيلة.
ج. تجنب التكلف واستخدام الأسلوب الطبيعي، فيكتب الكاتب كما يفكر وكما يتحدث."
أما آراؤه في النقد فقد كانت هي الأخرى ثاقبة، نورد منها رأيه في الكتّاب، حيث يقول: "الكتّاب ثلاثة أنواع: نوع يمشي في طليعة الناس ومشعله في يده يحمل صليبه على كتفه وشعاره "قل كلمتك وامشي"، والكتّاب من هذا النوع قليلون جدّا، فقد تمر الأجيال تلو الأجيال قبل أن يظهر منهم أحد... ونوع يماشي الناس جنبا إلى جنب لا يتقدم ولا يتأخر... والكتّاب من هذا النوع على استعداد لأن يسخّروا أقلامهم ويبيعوا ضمائرهم، تجدهم تارة على اليسار وتارة على اليمين. ونوع يمشي في مؤخرة الناس ومعوله في يده لا همّ له إلا أن يجرهم إلى الوراء وأن يهدم ما يبنون"[16].
أما رأيه في الشعر والخطابة فهو: "إذا كانت الخطابة أن يكون الكلام منسجما آخذا بعضا برقاب بعض، أن يكون المنطق جزلا والصوت جهيرا، أن نفخم الحروف المفخمة ونرقق الحروف الرقيقة، ونختلس الحركات القصيرة، ونشبع الطويلة، ونمد الممدودة، ونراعي فيه كل أصول التجويد، أن يمثل المعنى تمثيلا، فكل الذين خطبوا خطباء مصاقع. وإذا كان الشعر أن يكون الكلام موزونا والقوافي محكمة، فكل الذين أنشدوا القصائد شعراء. ولكن إذا كانت الخطابة أن تكاشف الناس بأفكار جديدة أو تعالج القضايا المبتذلة من باب جديد، أن تعرض على الناس من علمك أو اختبارك ما لم يكن لهم به عهد، فليس بينهم من يستحق أن يسمى خطيبا. وإذا كان الشعر أن تأتي بوحي جديد فليس بينهم شعراء"[17].
أما رأيه في الشعراء: "الشاعر أما مبتكر أو مقلد. المبتكر هو الذي يجيش صدره لمعنى فتنقاد له الألفاظ الأنيقة ولا ينقاد إليها؛ فالمعاني معانيه والالفاظ ألفاظه، وإذا كان هو صاحب معانيه وألفاظه، فكأنه ابتكرها ابتكارا أسبق إليها أم لم يسبق. وأما الشاعر المقلد فهو الذي يعيد ما قاله غيره، انطبق على ما يقتضيه الحال أو لم ينطبق، فلا المعاني معانيه ولا الألفاظ ألفاظه"[18].
مما تقدم نستطيع أن نجلو مذهب السكاكيني في النقد:
1. الموضوعية والصدق أمران متلازمان في النقد.
2. الأدب للحياة وله دور في حياة الأمم لذلك هو للكافة لا للخاصة.
3. مضمون لا أسلوب، ابتكار لا تقليد، علم واختبار روحي وليس ترصيعا وألفاظا منمقة دون معنى.
ولكن رغم هذه الآراء النقدية النيّرة كان السكاكيني في آرائه تعميميا فضفاضا، في نقده الكثير من الرومانسية.
هذه هي آراء السكاكيني في اللغة والكتابة نثرا وشعرا و في النقد، وهي آراء جديدة بالنسبة لعصره، لذلك ثار عليها أصحاب الأسلوب القديم[19] وهاجموها، ولكنها صمدت لهم وتغلبت عليهم بحكم الزمن الزاحف دائما إلى أمام.
والسؤال المشروع: هل استطاع السكاكيني أن يوازن بين نظرياته وبين إبداعه شعرا ونثرا؟ بمعنى هل كان في إبداعه مجددا كما في دعوته؟ كي نجيب عن هذا السؤال سنعرض نماذج من شعره ومن مقالاته ومن يومياته لنرى إلى ما قصد إليه هذا المفكر المبدع. ولكن قبل ذلك تُلزمني الأمانة القول: "إن ما خلفه السكاكيني من نصوص إبداعية قليل بحيث لا يصمد للحكم المطلق، ولكنها محاولة لا بأس بها للتعريف بإبداعه، شريطة ألا نسلخ أعماله عن الفترة التي كتبت فيها.
في شعره كان السكاكيني ميالا إلى الوضوح صاحب عاطفة مطبوعة، رومانسيا يمزج الحسّ بالفكر، بعيدا عن التكلف والصنعة، في شعره واقع وحقيقة وتجربة حدثت، يخلو من التعقيد. هدفه المضمون لا اللغة وهذا كله مقارنة مع شعر عصره يعتبر تجديدا، وما ينقص هذا الشعر الالتهاب والمعاني المبتكرة والصور الجديدة.
يقول في قصيدة نظمها عام ألف وتسعمائة وسبعة، وبعث بها إلى سلطانة حبيبته وزوجته فيما بعد:
إلى اليوم لم أدر الصبابة والهوى
فما سرني قرب ولا ساءني بعد
حفظت فؤادي من هوى كل غادة
فلم تُصْبِني سعدى ولم تُلهني هند
أبيتُ قرير العين خلوا من الهوى
سواء لدى قلبي التعطف والصّد
وكم سمعت أذني ظلامة عاشق
وشكوى شجٍ يبكي لها الحجر الصلد
فأحسب شكواه دعابة مازح
فلا مهجتي تحنو ولا أدمعي تبدو[20]
وفي قصيدة أخرى بعثها إلى سلطانة أيضا عام ألف وتسعمائة وثمانية حين كان في أمريكا يقول:
وهبت فؤادي فلا أُرجعه
وان هان عندكم موضعُه
ونُطت بكم حبل ودّي فمهما
أسأتم إلي فلا أقطعه
عهدت ودادكم لا يحولُ
فما لي أراه غفت أربعه[21]
وفي سجنه نظم قصيدة يعبر فيها عن مشاعره يقول:
ذكّراني أيام كنت سعيدا
لا أقاسي من الجوى ما أقاسي
ذكّراني وان تصدع قلبي
وتلظّت من حرّها أنفاسي
ذكّراني ولا تبالا بدمع
بلّ نحري وأترعت منه كاسي
كيف أنسي وحبهم في فؤادي
_ أينما كنت_ ثابت الأساس[22]
هذا هو شعر السكاكيني، فيه رقة وبساطة بلا تزويق ولا صنعة ولا تكلف، يخرج عن طبع ويعبر عن واقع حال، وبهذا يكون قد انطبقت عليه آراؤه التي ذكرناها سابقا.
وإذا انتقلنا إلى نثره فنجد أن معظم ما خلّفه لنا هو مقالات ورسائل و يوميات. في مقالاته تناول السكاكيني عددا من المواضيع: اجتماعية ووطنية سياسية وأدبية. وأهم ما يميز هذه المقالات ابتعادها عن الإطناب إلى الإيجاز وعن الترادف والتكلف، والتزامها بالأسلوب الطبيعي لأنه أسلوب العصر، والوضوح واختيار ما هو مأنوس من الألفاظ كما أنها تتميز "بعنصر التشويق وقصر العبارات والابتعاد عن المقدمات المملة وإضفاء روح المرح والسخرية"[23].
يقول في إحدى مقالاته: "أدلة البيان ثلاثة: القرنية والترتيب والإعراب، ولا بد أن تكون هذه الأدلة قد مرت على أدوار مختلفة قبل أن وصلت إلى صورتها الحاضرة التي ورثناها من عهد التدوين جريا على ناموس النشوء والارتقاء..."[24].
من هذا نشعر دقة الملاحظة وعمق التفكير والبناء المحكم للمقالة من الفرضية إلى البرهان إلى الإثبات بلغة علمية موجزة لا ترهّل فيها، تميل إلى الوضوح والطبيعية.
أمّا رسائله فهي كثيرة قسم منها وُجّه إلى سلطانة وآخر إلى سريّ ابنه وثالث إلى أصدقائه، وهي تختلف مضمونا وشكلا. فرسائله إلى سلطانة طابعها رومانسي يصف فيها حبه وشوقه بأسلوب جميل فيه مرارة وأسى. بينما رسائله إلى ابنه كانت تربوية توجيهية، تصف حال المجتمع وقضايا إنسانية وثقافية متنوعة، وتضمنت آراءه في الحياة والناس. ورسائله إلى أصدقائه أيضا تتحدث عن المجتمع والناس وعن تطلعاته في الحياة. كل ذلك بعبارة مشرقة أنيقة واضحة لا تزويق فيها ولا مكيجة. يقول في رسالة إلى سريّ: "هذه بعض رسائلي إليك، أعد نظرك فيها تجد أنها سجل لتطورك، وأحمد الله أنه تطور إلى الأحسن والأعلى. كنت متسامحا بالقديم فحاولت أن أحبب إليك الجديد لتؤمن النزاع بينهما. كنت اتّكاليا فشجعتك على ممارسة الحياة الاستقلالية. كنت ضعيف الثقة بنفسك فحاولت أن استدرجك إلى الثقة بها. كنت مترددا بين هذا المطلب وذاك فحاولت أن أسدد خطواتك وأرهف عزمك. كنت طفلا فحاولت أن أعمل منك رجلا..."[25].
أما في يومياته فيرصد السكاكيني بأسلوب ساخر ميّال إلى التأمل أحيانا، "ومن هنا تعتبر هذه اليوميات أثرا افنيا رائعا وظاهرة كبرى في حياة النثر لأنه فيها صوّر الواقع تصويرا فنيا"[26] وسنمتنع عن إيراد نموذج منها هنا لأن الكتاب متوفر والمجال ضيق.
بعد هذه الوقفة مع نثر السكاكيني نخلص إلى القول: انه في نثره كان واضحا يختار المتداول، يؤثر الإيجاز، دقيقا في تعبيره أنيقا في ألفاظه، متمكنا ثابتا في تفكيره. موصلا للمعاني دون عناية متكلفة. كما قال عنه الدكتور إسحق موسى الحسيني:
" كان قصده أن يرد إلى الكلمة كامل قيمتها بعد أن ابتذلت، ودعا إلى تعرية الأسلوب من الحلية اللفظية التي أدت إلى ضيم الفكر وإسفافه"[27].
خلاصة واستنتاجات
استطاع السكاكيني بما تعلّمه وبما مارسه من تجارب وبما تأثر به أن يقود حملة على دعاة القديم، وأن يرقى بأدبنا نحو التجديد سنّة الحياة. وهو في معركته تلك كان مندفعا لإيمانه الصادق بعدالة قضيته. والأسباب التي دفعته إلى ذلك ثلاثة يوردها الدكتور ناصر الدين الأسد كالتالي:
1. ميله في حياته إلى اليسر والوضوح وكرهه للتكلف والتعقيد.
2. مزاولته مهنة التدريس سنوات طوالا جعلت التوضيح والإفهام من صفاته.
3. ما وصلت إليه الكتابة في آخر القرن التاسع عشر ومطلع العشرين من تكلف وتصنع، وترديد وعبارات محفوظة أو منقولة، وإكثار مفرط في استخدام المترادفات والمحسنات اللفظية، فضلا عن تفاهة المعاني وغثاثة الأفكار"[28].
وفعلا لقد كانت دعوته تلك السبب الذي بوّأه هذا المركز السامي في حياته وفي أدبه. وقد طبق السكاكيني دعوته على ما أبدعه من أدب، فكان بذلك صادقا مع نفسه ومع الناس.
ولكن مع ما في هذه الدعوة التي لها أكبر التقدير لأنها تحتوي على ردّ لأساليب شائهة عميقة، ولأنها تخلص الأسلوب من كثير من الشوائب التي علقت به على رأي ناصر الدين الأسد، إلا أننا نجد بعض الفهم المخطوء عند السكاكيني وذلك بسبب ملابسات المرحلة منها مثلا: قضية الشكل والمضمون؛ فقد فات السكاكيني العلاقة الجدلية بينهما، لذلك فصل المضمون عن الشكل. ومنها أيضا موقفه من المترادفات فقد فاته أن المترادفات والتكرار لهما أحيانا أثر في التصوير والتلوين الشعري. ولكن مهما يكن من أمر فالسكاكيني يعتبر رائد أسلوب الكتابة العلمية والبحث الدقيق، لأن كتابته كانت مشرقة العبارة، ناصعة البيان، مسلسلة الأفكار قريبة إلى الفهم، خفيفة على النفس، تخاطب بعقل كاتبها عقول الناس في موضوعات عقلية ومحاكمات ذهنية، فيحسن كاتبها التفكير والتعبير، ويبلغ غايته في التوضيح والإفهام وهذه هي صفات الكتابة العلمية. ومع أنه في ابداعه لم يوفق كما في دعوته وفي كتابته العلمية، ومع أن أسلوبه حين يريد أن ينقل صورة من ذاته لم يرقَ إلى أسلوب الكتابة الفنية، لأن تفكيره العقلي طغى عليه، ولأن ألفاظه كانت أحيانا محددة متجردة من الألوان والصور، إلا أنه استطاع رغم ذلك أن يخلّص الأدب من شوائبه ومما علق به من أدران إبان عصر الانحطاط وبداية النهضة.
المصادر:
1. أبو غزالة= عدنان أبو غزالة، الثقافة القومية في فلسطين خلال الانتداب البريطاني. ترجمة د. حسني محمود، الأسوار، عكا (د.ت).
2. الأسد= ناصر الدين الأسد، الاتجاهات الأدبية الحديثة في فلسطين والأردن. معهد الدراسات العربية العالمية، القاهرة، 1957.
3. حداد= يوسف أيوب حداد، خليل السكاكيني. الصوت، الناصرة، 1985.
4. خليل السكاكيني بين الوفاء والذكرى. مركز إحياء التراث العربي، إعداد نواف حسن، الطيبة، 1991 (مقال د. أحمد حامد).
5. ذكرى السكاكيني. القدس، 1957.
6. كذا أنا يا دنيا، يوميات السكاكيني. جمع ابنته هاله، القدس، 1955.
7. مطالعات في اللغة والأدب، القدس، 1943، 1946.
8. المقدسي= أنيس المقدسي، الاتجاهات الأدبية في العالم العربي الحديث. 1960.
9. ياغي= عبد الرحمن ياغي، حياة الأدب الفلسطيني الحديث. المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1968.
الهوامش
[1] ذكرى السكاكيني، ص94.
[2] ذكرى السكاكيني، ص75.
[3] ما تيسّر ج2، ص19.
[4] ذكرى السكاكيني، ص81.
[5] راجع في هذا الخصوص ياغي ص 121- ص150 للاستزادة.
[6] حداد، ص236.
[7] أبو غزالة، ص 49.
[8] حداد، ص239.
[9] مطالعات، ص 170-172.
[10] ن.م، ص79.
[11] ن.م، ص79.
[12] ن.م، ص79.
[13] ن.م، ص 169-170.
[14] اليوميات، ص146.
[15] مطالعات، ص88-89.
[16] الأسد، ص81.
[17] حداد، ص147.
[18] اليوميات، ص 203-204.
[19] اقرأ مناقشات السكاكيني وأرسلان ياغي، ص380 وفي خليل السكاكيني بين الوفاء والذكرى، ص69.
[20] ما تيسّر، ج1، ص31.
[21] اليوميات، ص3.
[22] اليوميات، ص30-31.
[23] اليوميات، ص115.
[24] السكاكيني ببين الوفاء والذكرى، ص65.
[25] مطالعات، ص255؛ ياغي، ص381.
[26] ياغي، ص381.
[27] ذكرى السكاكيني، ص18.
[28] الأسد، ص82.