سليمان جبران: دور وسائل الاتّصال في تطوير اللغة العربية
حتى حين كانت وسائل الاتصال مقصورة على الصحافة المكتوبة، أطلقوا عليها لقب "السلطة الرابعة"؛ اعترافا بمكانتها، وإكبارا لأثرها. فكيف نسمّيها اليوم وقد تعدّدت وسائلها، من إذاعات وتلفزيونات وخلويّات وفضائيات وإنترنت، وامتدّت مناطق نفوذها لتحتوي العالم الأوّل والثاني والثالث؛ تزور المدينة والقرية، وتدخل القصر والكوخ، فتبسط هيمنتها على العالم والجاهل، والمثقف والأمّي، والكبير والصغير. لا جدال في أن وسائل الاتصال اليوم هي عامل تأسيسي هامّ في تشكيل وعي الأمة القومي والسياسي والثقافي، واللغوي طبعا - عنوان لقائنا في هذا اليوم. في أواخر القرن التاسع عشر، ولم يعرفوا يومها بعد من وسائل الاتصال غير الجرائد، كتب النهضوي المعروف إبراهيم اليازجي، في صحيفة "الضياء" في مصر، مشيرا إلى أثر الجريدة الطاغي على المجتمع المعاصر، بما في ذلك اللغة: "والحاصل أن الجرائد، بما هي عليه من كثرة الانتشار والتداول بين أيدي القراء، تعدّ من أعظم العوامل وأثبتها أثرا في أخلاق المجتمع وعوائده، ومعارفه وعقائده وطبقات مداركه، حتى في لغته ووجوه التعبير عنها، لأنها بتكرّرها على الذهن واللسان، ترْسخ عبارتها في ملكة قارئها، كما ترسخ خطّتها المعنوية في معتقده، حتى إذا رام الكتابة نزع بها إلى أسلوب الجريدة التي ألف مطالعتها، وربّما عن غير قصد". ( إبراهيم اليازجي: لغة الجرائد، بيروت، 1984، ص. 25- 26).
مع ذلك، لا يكاد رجال اللغة والأدب يذكرون الصحافة والصحافيين حتى يأخذوا في تعداد مثالبهم، وإحصاء أغلاطهم. فقد زعم أحدهم أن وسائل الاتصال هي السبب في ضعف اللغة العربية. وقبله بسنوات عديدة شكا حافظ إبراهيم، على
لسان اللغة العربية، من هذه الأغلاط، أو المزالق بأسلوب حافظ، زاعما أنها تقرّب
اللغة من أجَلها:
أرى كلّ يومٍٍ بالجرائدِ مزلَقا من القبر يُدنيني بغير أناةِ
أيهجرني قومي، عفا الله عنهمُ، إلى لغةٍ لم تتّصلْ برُواةِ
سرتْ لوثةُ الإفرنج فيها كما سرى لُعابُ الأفاعي في مَسيلِ فُراتِ
فجاءتْ كثوبٍ ضمَّ عشرينَ رقعةً مشكّلةَ الألوانِ مختلفاتِ
( ديوان حافظ إبراهيم، بيروت، 1969، ص. 255).
يعيبون على وسائل الاتصال أغلاطها في اللغة، ومن يعمل / يكتب يخطئ طبعا،
" وما أظنّ أن أحدا على وجه الأرض يمكن أن يدّعي لنفسه العصمة من الخطأ اللغوي، وبخاصّة إذا لم يأخذ فرصته من المراجعة والتدقيق والضبط بالشكل، وأمامنا الأمثلة كثيرة من كبار الأدباء والمثقفين والمتحدّثين وقدامى المذيعين" (أحمد عمر مختار: أخطاء اللغة العربية المعاصرة عند الكتاب والإذاعيين، القاهرة، 1993، ص. 20). رغم ذلك، يعيبون على وسائل الاتصال أغلاطها، متناسين أفضالها على اللغة والأدب، وهي كثيرة وجليلة.
العاملون في وسائل الاتصال مطالبون، على الدوام، بنقل نبض الحياة السريع المتجدّد، في البيت والشارع والمصنع والبرلمان. والحياة الجديدة تخلق ظواهر جديدة، ومفاهيم جديدة، لم تعرفها اللغة من قبل ولم تسمّها، فيُضطرّ هؤلاء إلى ابتكار الألفاظ الجديدة؛ بالاشتقاق الجديد، والاستعارة من اللغة المحكيّة واللغات الأجنبية. على هذا النحو يسهم الصحافيون في ضخّ دماء جديدة في عروق اللغة الجافّة، بحيث يمكن القول إن وسائل الاتّصال هي العامل الأول في تحديث اللغة وعصرنتها. إلا أن هذه الاشتقاقات الجديدة، التي تثري اللغة وتطوّرها، غالبا ما يعتبرها رجال اللغة أخطاء، والمتعصبون منهم يعتبرونها جرائم، لخروجها على المتداول المألوف. يذكر إبراهيم اليازجي مثلا، في كتابه المذكور، من أخطاء الصحافة ما نعتبره، في هذه الأيام، لغة حديثة لا غبار عليها: التحوير بمعنى التنقيح والتعديل والتهذيب، ولا يرى اليازجي معناها سوى التبييض؛ انصاع لمشورته بمعنى انقاد وأطاع، ولا وجود، في رأيه، لذلك في اللغة؛ ينبغي عليه بمعنى يجب، وليس كذلك، في رأيه، لأنه في الأصل مطاوع بغى الشيء بمعنى طلبه؛ الشهامة بمعنى المروءة وعزة النفس، يرى أنه ليس من كلام العرب، لأن الشهم عندهم الذكيّ المتوقّد الفؤاد؛ غصن يانع بمعنى نضير رطب، لأن ينع في رأيه لا يأتي بهذا المعنى بل بمعنى الناضج؛ إلى غير ذلك من "الأخطاء" مثل: لصالح فلان أي لمصلحته، حافّة الوادي بتشديد الفاء، وريث وصوابها وارث، حكم صارم، وحش كاسر، انفرط العقد، اقتصد بمعنى وفّر، أمعن في الأمر بمعنى تدبره وتقصى النظر فيه، الكساء بمعنى الملبوس، سوية بمعنى معا، رجل تعيس وصوابها تعس، احتار وصوابها حار، اندهش، انذهل، النوادي جمع النادي، صلّح الشيء، الأمجاد جمع مجد. بل يبلغ به الأمر إلى تخطئة الشاعر الجاهلي الحارث بن حلزة لأن ضوضاء وردت عنده مؤنثة! فهل هذه الألفاظ كلّها، في نظرنا اليوم، أخطاء يجب نبذها، أم هي تجديدات أثْرت العربية التي ما زالت تفتقر منها إلى الكثير الكثير؟ المشكلة أن اليازجي، وهو اللغوي اللامع، لا يحتكم لغير مراجعه الكلاسيكية، دونما أدنى التفات إلى ما يصيب اللغة أثناء تداولها على مرّ العصور من تطوير وتوليد واشتقاق، ومن اتساع أو ضيق أو "انحراف" في الدلالة، بل إن هذا التطوّر لا يندر أن يكون عن طريق "الخطأ" أحيانا! ألم يسهم الصحافيون الكبار، أحمد فارس الشدياق ورفاعة رافع الطهطاوي وبطرس البستاني، وكثيرون غيرهم، في تطوير العربية وتحديثها، بالوسائل المذكورة، أكثر من إسهام المجامع والمؤسسات؟ طبعا هناك أخطاء نحوية واضحة، لا تخريج لها ولا تفسير سوى ضحالة وركاكة فاعليها. هذه لا بدّ من تقويمها طبعا، لكن لا يجوز اعتبار كل اشتقاق جديد يبتكره الصحافيون خطأ، فنمنع بذلك تجديد اللغة وعصرنتها.
لوسائل الاتصال فضل لا ينكر أيضا في تسهيل الأسلوب العربي وإسلاسه. فمن كانت غايته الوصول إلى أكبر عدد من المتلقين لا بدّ له لتحقيق ذلك من الأخذ بلغة سهلة سائغة، بعيدة عن الإغراب والتعالي والتقعّر، تستقي الكثير في مبانيها، كما في معجمها، من اللغة المحكيّة؛ اللغة الطبيعية للمتلقي، ومن اللغات الأجنبية؛ المصدر الأهمّ للأخبار والمعلومات في وسائل الاتصال الجادّة اليوم. إذا كنا في هذه الأيام نقرأ ونسمع، راضين، الفقر الموجزة المتماسكة، والجمل القصيرة الرشيقة، يقدَّم فيها المسند إليه على المسند ، وتتصدّرها الفضلة من جار ومجرور أو ظرف خدمة للمعنى، فالفضل الأكبر في ذلك كله يعود إلى وسائل الاتصال، ما في ذلك ريب. بل إن أسلوب وسائل الاتصال، السائغ المتدفق في يسر، يشكّل رافدا عظيم الشأن في تشكيل لغة الأدب الحديث أيضا: " حين أعود بذاكرتي إلى الستين سنة الماضية من حياتي، أي منذ شرعت أقرأ وألتفت إلى الصحف، أجد أن الأسلوب السهل المنير، الذي وصلنا إليه في الكتابة بلغتنا العربية، لا يعود الفضل فيه إلى معلمي اللغة في المدارس، بل لا يعود الفضل فيه حتى إلى الكتاب "الأدباء" القدامى. وإنما الفضل في هذا الأسلوب يعود إلى الصحف" (سلامة موسى: الصحافة حرفة ورسالة، القاهرة، 1958، ص. 39).
آثرنا كما ترون، في مستهلّ هذا المؤتمر اليوم، أن نلقي الضوء بالذات على الدور التاريخي لوسائل الاتصال في تشكيل اللغة العربية وتحديثها، لأن جلّ ما نقرؤه ونسمعه في هذا الشأن يقتصر على ذمّها وتبيان عيوبها، لا أكثر. ثم إن المثالب الكثيرة التي تُنسب إليها هي في الواقع مثالب القائمين عليها والعاملين فيها، وهي في هذه البلاد بالذات كثيرة، تستحقّ منّا وقفة أخرى في مناسبة أخرى.
[ الكلمة الافتتاحية في المؤتمر السنوي الذي أقامه مجمع اللغة العربية في حيفا، في 31 / 12/ 2010، بعنوان: " اللغة العربية في وسائل الاتصال" ].