فن التوقيع في الشعر العربي الفلسطيني المحلي
د. حبيب بولس
التوقيعات "فن من الفنون الأدبية التي انتشرت في العصور الإسلامية، وكان الخليفة عمر بن الخطاب أول من استعمل هذا الفن فيما كان يكتبه على حواشي الرقاع المرفوعة إليه، ثم صار نهجا بعده. ولقد ازدهر هذا الفن وشاع في عصر بني أمية وعصر بني العباس. غير أن روح العصور المتأخرة قد نالت منه فظهر فيه التطويل والغموض أحيانا.. واستعمل في الشعر الحديث إلى جانب فنون أخرى وثقافات متنوعة".[1]
ويعرف القدامى التوقيع بقولهم:
"وأما التوقيع فإن العادة جرت أن يستعمل في كل كتاب يكتبه الملك، أو من له أمر ونهي في أسفل الكتاب المرفوع إليه أو على ظهره أو في عرضه بإيجاب ما يسأل أو بمنعه كقول الملك ينفذ هذا إن شاء الله، أو هذا صحيح، وكما يكتب الملك على ظهر الكتاب لترد على هذا ظلامته، أو لينظر في خبر هذا أو نحو ذلك".[2] وقد روي عن جعفر بن يحيى أنه رفع إليه كتاب يشتكى فيه عامل فوقع على ظهره "يا هذا لقد قل شاكروك وكثر شاكوك، فإما عدلت أو اعتزلت".[3]
وقال الخليل معرفا التوقيع ومبينا أصوله:
"التوقيع في الكتاب إلحاق فيه بعد الفراغ منه، واشتقاقه من قولهم وقعت الحديدة بالميقعة إذا ضربتها، وحمار موقع الظهر إذا أصابته في ظهره دبرة، والوقيعة نقرة في صخرة يجتمع فيها الماء وجمعها وقائع.. فكأنه سمي توقيعا لأنه تأثير في الكتاب أو لأنه سبب لوقوع الأمر وإنفاذه، من قولهم أوقعت الأمر فوقع".[4]
ويعتمد هذا الفن على الإيجاز والبديهة. واستخدام الإيجاز لا يقتصر على النثر فقط وإنما يتعداه إلى الشعر. "فإذا كان الإيجاز في الأدب العربي بلاغة في النثر كما هو بلاغة الشعر، فإن الشعر أولى به من النثر، لأن الشعر في حاجة إلى كل ما يقوي دعائم الخيال فيه ويفسح المجال لانطلاق أجنحته وراء الألفاظ والعبارات".[5]
وتمثل التوقيعات لونا من الكتابة ينزع إلى "الإيجاز الشديد حتى ليبلغ حد الجملة أو الجملتين أو الجمل المعدودة. ومن أمثلة ذلك ما وقعه هارون الرشيد إلى صاحب خراسان "داو جرحك لا يتسع". والمأمون "دع الضرع يدر لغيرك كما در لك".[6]
وقد اشترط العرب في الكلام الموجز أن يدل على معناه دلاله ظاهرة، لأنه إذا لم يفعل ذلك فهو قبيح مذموم، لا من حيث كان مختصرا بل، من حيث كان المعنى فيه خافيا.[7] وقد اعتبروا الإيجاز والاختصار وحذف فضول الكلام شرطا أساسا من شروط الفصاحة، لأن الكاتب أو الشاعر يعبر بذلك عن "المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة".[8]
وقد قسموا دلاله الألفاظ على المعاني ثلاثة أقسام: المساواة: وهي أن يكون المعنى مساويا للفظ. التذييل: وهو أن يكون اللفظ زائدا على المعنى وفاضلا عنه، والإشارة: وهو أن يكون المعنى زائدا على اللفظ، أي انه لفظ موجز يدل على معنى طويل على وجه الإشارة واللمحة.[9]
ويرى هؤلاء أن "الإشارة تصلح لمخاطبة الخلفاء والملوك ومن يقتضي حسن الأدب عنده التخفيف في خطابه وتجنب الإطالة فيما يتكلف سماعه".[10]
من هنا نشأ التوقيع وشاع عند من هم أصحاب منزلة وشأن وذلك لأن وقتهم لا يسعفهم للتطويل في التعليق على الكتب التي ترد إليهم. لذلك كانوا يجنحون ما أمكن إلى الإيجاز ويحرصون أن تكون توقيعاتهم من مأثور القول أو من تأليفهم إن كانوا ذوي فطنة وعلم. ومن هنا كان يفترض بالمتلقي أن يكون هو الآخر على درجة من النباهة والعلم، ليفهم ما ترمي إليه التوقيعة عن طريق سبر غورها والوقوف على أبعادها. ويرى الخفاجي الحلبي "أنّ المختار من الفصاحة والدال على البلاغة هو أن يكون المعنى مساويا للفظ أو زائدا عليه.
ويعني بقوله "زائدا عليه" أن يكون اللفظ القليل يدل على المعنى الكثير دلالة واضحة ظاهرة، لا أن تكون الألفاظ لفرط إيجازها قد ألبست المعنى وأغمضته".[11]
وقد ذكروا أن جعفر بن يحيى بن خالد كان يقول لكتابه: "إن استطعتم أن يكون كلامكم كله مثل التوقيع فافعلوا".[12]
ويقدم القدامى نموذجا على الإيجاز والاختصار من قوله تعالى: "ولكم في القصاص حياة"، ذلك لأن هذه الألفاظ على إيجازها قد عبر بها عن معنى كثير وهو أن الإنسان إذا علم أنه متى قتل كان ذلك داعيا له قويا ألا يقدم على القتل.
فارتفع بالقتل الذي هو قصاص كثير من قتل الناس بعضهم لبعض، فكان ارتفاع القتل حياة لهم. "وهذا من أعلى طبقات الإيجاز".[13]
وللإيجاز وجوه منها الإيجاز بحذف الجواب ومثاله: "لو رأيت عليا بين الصّفين"، حيث هنا بحذف الجواب يذهب السامع كل مذهب. وهو أفضل من لو قلت .. لرأيت شجاعا يقاتل الأبطال، إلخ... أو الإيجاز بإسقاط كلمة (الحذف)، لدلالة فحوى الكلام عليها. أو تقليل اللفظ وتكثير المعنى من غير حذف (القصر) وبهذا يكون الإيجاز عكس التطويل، أي العبارة عن المعنى بالكلام الكثير.[14]
يقول الخفاجي: "يجب أن نحد الإيجاز المحمود بان نقول: هو إيضاح المعنى بأقل ما يمكن من اللفظ ".[15] ويقدم مثالا على ذلك بقوله: "روي عن المأمون أنه قال قرأت فيه كلاما وجدته نظير مما سمعت الرشيد يقول في البلاغة. فاني سمعته يقول: البلاغة التباعد عن الاطالة والتقرب من معنى البغية والدلالة بالقليل من اللفظ".[16] ويقدم نموذجا على الإيجاز المحمود الذي يوضح المعني بأقل ما يمكن من اللفظ ببيت شعر لامرئ القيس، يقول فيه:
على هيكل يعطيك قبل سؤاله أفانين جري غير كز ولا وان
وقد رأى الخفاجي في هذا البيت نموذجا للإيجاز المحمود المبين سابقا لأن الشاعر جمع في بيت واحد أفانين جري ما لو عد كان كثيرا، وأضاف إلى ذلك أوصاف الجودة في الفرس بقوله: إنه يعطي قبل سؤاله أفانين جريه ولا يحتاج إلى حث، ونفى عنه – بقوله "من غير كز ولا وان" – أن تكون معه الكزازة من قبل الجماح والمنازعة، والوني من قبل الاسترخاء والفترة. فكان في هذا البيت جملة من وصف الفرس قد عبر بها عن معان كثيرة.[17]
وقد قصد الخفاجي ومعه آخرون في مدحهم الإيجاز والاختصار في الكلام أن "الألفاظ غير مقصودة في أنفسها وإنما المقصود هو المعاني والأغراض التي احتيج إلى العبارة عنها بالكلام. فصار اللفظ بمنزلة الطريق إلى المعاني التي هي مقصودة".[18]
مما تقدم نخلص إلى القول: إن الإيجاز في النثر والشعر على السواء أمر محمود، ولكننا رغم ذلك نجد في شعرنا العربي إسهابا وإطالة خاصة في الرسمي منه، حتى وإن كان البيت الواحد هو وحدته الموضوعية.
ولكن هذا الشعر المسهب بدأ يتراجع أمام مظهر تجديدي في الشعر ظهر وشاع في القرن الثاني للهجرة. وقد تميز هذا المظهر بالبعد إلى حد ما عن القصائد المطولة التي كانت أساسا في الشعر الجاهلي القديم.[19] وهذا المظهر هو المقطعات الصغيرة التي لا تتجاوز عدّة أبيات والسبب في هذا يرجع في رأي دارسي اتجاهات الشعر العربي في هذه الفترة إلى "طبيعة التطور الحضاري الذي آل إليه المجتمع الإسلامي في ذلك العصر فكلما تعقدت أسباب الحضارة وطرائق الحياة تسرب الملل إلى نفوس الناس من الأعمال الأدبية الكبيرة المطولة، ولم يعد لديهم الاستعداد الكافي ولا الوقت الذي يتيح لهم أن يقفوا كما كان الأقدمون يقفون في عكاظ وغيرها من الأسواق.. فوقت الناس لم يعد ملكا لهم، بل هو ملك لما يزاولونه من عمل في التجارة أو في الزراعة أو في الصناعة.. والسبب الثاني (في رأيه) يعود إلى أن الشاعر أصبح يحد قصيدته بفكرة معينه، فلم تكن هذه الفكرة تستغرق منه في الغالب أكثر من أبيات معدودة بعكس الشعر القديم -كما نرى في المعلقات وغيرها– إذ كان الشاعر ينتقل من فكرة إلى أخرى حتى لتبدو قصيدته كأنها تتكون من بضع قصائد مختلفة الأفكار والأغراض. ويضيف إلى هذين السببين، تأثير الغناء حيث يقول: "فطبيعة الغناء تفرض على الشعراء
-وكان أكثر الشعر يغنى في القرن الثاني – أن يقتصر شعرهم على المقطعات الصغيرة دون غيرها حتى يمكن تقديمها في إطار موسيقي جذاب، وحتى تتواءم معانيها المباشرة مع ما يتطلبه الغناء من تأثير سريع وتطريب".[20]
ولعل الشعراء الكتاب قد ساهموا مساهمة كبيرة في شيوع المقطوعة الشعرية باعتبارها "شكلا من أشكال التعبير الشعري".[21] ويرى حسين العلاف "أنها – المقطوعة– لم تسد شكلا فنيا إلا في القرن الثالث في أوساط الشعراء الكتاب، خاصة بعد أن انسحبت القصيدة الطويلة عندهم إلى مجال ضيق من مجالات التعبير الشعري في الشعر الرسمي، وفي الشعر الذي يريد الشاعر الكاتب إظهار مقدرته فيما يجري فيه من المناقضة والمناظرة والمعارضة والحوار مما له كبير علاقة بشيوع الجدل والحجاج بين أوساط واسعة من أوساط المجتمع العباسي في هذا القرن".[22] وإذا كانت المقطوعة لم تحدث عفوا وإنما جاءت بسبب الظروف الموضوعية التي أسلفناها في القرن الهجري الثاني، فإن "ما حققته هذه الأسباب مجتمعه من تطور ونمو في القرن الثالث من جهة وبسبب ما تحقق بفعل هذه الظروف من خروج معظم شعراء العصر والشعراء الكتاب خاصة على معظم التقاليد الفنية لعمود الشعر. كل هذا منح المقطوعة هذا التجدد، وهذه السيادة في مضمار الأشكال التعبيرية المجددة التي عرفها شعر القرن الثالث وشعر الكتاب خاصة".[23]
لقد آثر كثير من الشعراء الكتاب المقطوعة وقصدوها قصدا و"كان في طليعتهم خالد الكاتب الذي لا يتجاوز الأربعة أبيات ولا يزيد عليها، حتى عرف بهذا بين أدباء زمانه شعراء وكتابا ونقادا".[24]
وقد كان لتطور قصيدة الغزل في القرن الثاني الهجري دور كبير أيضا في شيوع المقطعات القصيرة فنحن نجد في القرن الثاني "قصائد مستقلة نهضت بالغزل وأفردت له- يلاحظ على أكثرها أنها كانت متوسطة في عدد أبياتها، وسبب هذا كونها في موضوع واحد. والقصيدة ذات الموضوع الواحد إن طالت مرة فإنها لا تطول في كل مرة.. أما بقية الشعراء فكان أكثر غزلهم في مقطوعات. وفي طليعتهم يقف العباس بن الأحنف ومطيع بن إياس وأبو نواس..".[25] ويرجع يوسف بكار أسباب شيوع المقطوعات الغزلية إلى الأسباب ذاتها التي أسلفناها والتي عددها محمد هدارة.[26] ونستطيع، ونحن بهذا الصدد، أن "نستشف الأسباب التي كانت تمنع الشعراء من الجنوح إلى القصائد الطوال وتميل بهم إلى القصار، ونصنفها في ثلاثة: فني ونفسي وشكلي. يتمثل السبب الفني في تهذيب القصيدة وتنقيحها بحذف فضولها وما قد تسرب إليها من حشو، وفي الخوف من الانزلاق إلى السقط والزلل وفي الاكتفاء بالقصار إذا أدت المعنى المراد.. أما السببان: الشكلي والنفسي، فمتداخلان عند أكثر الشعراء الذين كانوا يتعمدون القصار تعمدا – وهذا هو سر الشكلية– لرواج سوقها في الحفظ والعلوق بالأفواه والأسماع والسيرورة بين الناس ولكي يكتب لها الخلود والديمومة.
ولكنهم كانوا يراعون عنصرا نفسيا يتمثل في تجنب السامعين السآمة وفي إحداث تأثير أكبر وأقوى عن هذا الطريق".[27]
من هنا نرى أن الشعر العربي بدأ يجنح نحو القصائد القصار وذلك بسبب الظروف التي أسلفناها، خاصة قضية التركيز بحيث صارت القصيدة تعبيرا عن لحظة انفعاليه تأمليه محدودة. وما حدث للشعر حدث للنثر أيضا فمع نشأة الظروف ذاتها بدأنا نرى غلبة القطع القصيرة على الطويلة في فترة معينة، وبالتالي اختصار هذه القصة وتركيزها حيث باتت لا تتجاوز الأسطر المعدودة وهو ما يسمى اليوم بالقصة القصيرة جدا.
وشعراؤنا الفلسطينيون أخذوا يلجئون هم أيضا خاصة في دواوينهم المتأخره -في الستينات وما بعدها– إلى القصيدة المكثفة المركزة المعبرة عن لحظة انفعالية تأملية محدودة، بحيث صارت هذه القصيدة شبيهة بفن التوقيع لشدة تكثيفها واختصار ألفاظها وإيجازها.[28]
ولعل من أبرز الأسباب التي أدت إلى شيوع القصيدة الفلسطينية المحلية القصيرة -التوقيعة- هو انتقال الشعر من المباشرة والخطابية إلى الإيحاء، بمعنى انتقاله من أن يكون شعرا جماهيريا يلقى في المهرجانات غايته ورسالته الشرح والتنوير والتوعية والتثوير والدعوة إلى موقف، إلى قصيده تقرأ في جو خاص. نضيف إلى ذلك كثرة الأحداث وسخونتها، بحيث لم تعد تسمح هذه الأحداث بنظم القصائد الطويلة وذلك لكثرتها وتنوعها بحيث صار الشاعر يختصر ويوحي إليها بعدد من الأبيات، هذا من جهة، أما من جهة أخرى فإن سخونة هذه الأحداث أدت إلى الانفعالية والتعبير عنها باقتضاب..
وقد تميز هذا الإيجاز بأن صارت هذه القصيدة عبارة عن "مجموعه من التوقيعات النفسية التي تأتلف في صورة كلية تمثلها القصيدة في مجموعها".[29] كما أن هذه القصيدة الحديثة المكونة من عدد من التوقيعات "ارتبطت بعملية التصوير أكثر من ارتباطها بعملية البناء".[30] بحيث نجد أنفسنا في هذه الحالة "ننتقل مع الشاعر من شيء يقع في حياته ويعيشه وقد يقع في حياتنا ونعيشه إلى شيء ندركه في خفاء دون أن نعيشه لكننا نحس في كل مرة بأن شيئا ما يلح علينا ويتأكد وجوده".[31]
ونحن إذا تتبعنا شعرنا الفلسطيني في الستينات وما بعدها نجد أن الكثير من القصائد التي نظمت كانت تقوم على لحظة انفعالية محتقنة حتمتها الظروف عند الشاعر بحيث اضطرته هذه اللحظة إلى أن يخرج هذا المأزوم شعريا بأقل عدد من الكلمات، ولكن بالكثير من الإيحاء والرمز والأبعاد. وهذا اللون من الشعر المأزوم ذي اللحظة الانفعالية يتطلب من الشاعر فطنة وذكاء كما يفترض بالمتلقي أيضا أن يكون هو الآخر على درجة من النباهة ليفهم ما ترمي إليه القصيدة لقصرها. وتوقيعة الشعر يلقيها الشاعر بأسطر محدودة وذلك لهدفين، إما ليختتم بها قصيدته أو احد مقاطعها، بحيث إذا اطلع عليها القارئ فتحت أمامه مجالا رحبا وشرعت كوى من التأويل والإيحاء وهي لذلك لا تخلو من الإشارات الرمزية أو السخرية أو أن الشاعر يلجأ إلى التوقيعة وهو ما يعرف بالخلاصيات كي يتكئ عليها في ثنايا شعره أو خواتمه لإشاعة جو من التفاؤل والأمل.[32]
وشعراؤنا نظموا قصائد توقيعيه كثيرة محملة بهذين الهدفين إضافة إلى القصائد ذات الصورة الواحدة الانفعالية. ولعل انحياز شعرائنا في فترة الستينات وما بعدها إلى الشعر الثوري المقاوم جعلهم يميلون بقصائدهم إلى هذه الأهداف المذكورة سابقا، خاصة إشاعة جو التفاؤل والأمل. واستعمال مصطلح شعر توقيعي على شعرنا المحلي ذي القصائد القصيرة جاء طبعا للشبه بينه وبين أدب التوقيعات، وذلك لأن القصيدة التي نحن بصددها لقصرها واكتنازها العاطفي والمعنوي تشبه ذلك الأدب قديما.[33] ومن أبرز ميزات التوقيعة الشعرية أنها مبنية بناء توقيعيا، بمعنى "بناء الصورة الكلية للقصيدة من خلال صورة واحده ونتيجة لهذا فإن القصيدة تقدم فكرة أو انطباعا أو صورة باقتصاد شديد".[34] وهذا النوع من القصائد القصيرة جدا "له شبيه في الأدب العالمي إذ أن الشعر الياباني يسميه (هايكو). وهي قصيدة قصيرة جدا تقتصر غالبا على صورة عاطفية واحدة، يحاول فيها الشاعر إحداث تأثير جمالي مركز مستخدما الحد الأدنى من أدوات التعبير".[35] ولكن ونحن نتحدث عن شعر التوقيعة، يجب ألا يغيب عن بالنا أن على هذا اللون من الشعر أن يبتعد عن التعمية والقصر الشديد وذلك لأن "أفضل التوقيعات هي تلك التي تقدم لنا صورة عاطفية واحدة مع قدر معقول من الطول يمكن الشاعر من تقديم صورته بشكل كامل".[36] هذا من جهة، ويتيح للمتلقي لإتمام وسبر غور المرمى الذي يرمي إليه الشاعر من جهة أخرى.
وفي هذه الدراسة سنحاول أن نتتبع شعر التوقيعة من خلال قصائد لثلاثة شعراء محليين بارزين، كانت لهم الريادة في نظم القصيدة القصيرة في فلسطين، تلك القصيدة المحلية المحملة بالخصائص التي أسلفناها، وهم: الشاعر سميح القاسم، والشاعر توفيق زياد، والشاعر سالم جبران. ودراسة قصائد الشعراء المذكورين آنفا التوقيعية القصيرة المكثفة تتطلب تقسيمها إلى:
1. تلك القصائد المحكمة والمركزة التي انبعثت من لحظة مأزومة وموقف انفعالي والمكتنزة عاطفيا والتي تقوم على صورة كلية للقصيدة من خلال صورة واحدة.
2. تلك القصائد التي جاءت فيها التوقيعة في خواتم المقاطع أو خواتم القصيدة
-الخلاصيات-.
3. تلك القصائد التي اعتمدت فيها التوقيعة واتكأت على قول مأثور أو على مثل شعبي بحيث صارت خاتمتها بذلك انفجارية تبعث على التأمل والتأويل وإعادة النظر من جديد، ذلك لأنها محملة بالكثير من الإشارات والرموز.
أولا: القصائد المحكمة المركزة المكتنزة عاطفيا ومعنويا والتي تقوم على صورة كلية للقصيدة من خلال صورة واحدة:
يختتم الشاعر سالم جبران ديوانه الأول بهذه التوقيعة:
"كما تحب الأم/ طفلها المشوها/ أحبها..../ حبيبتي بلادي"[37]
يطرح الشاعر هنا صورة كلية واحدة مكثفه تكتنز الكثير، حيث فيها يشبه بلاده المغتصبة بالطفل المشوه، وهذا التشبيه رغم طرافته إلا أنه يحمل الكثير من الأبعاد. فالبلاد المشوهة والتي يحبها الشاعر رغم ما حدث لها من تشويه، هي بلاده المحتلة التي عاث فيها المحتل فسادا وحرف تاريخها وشوه وطمس معالم حضارتها وداس على الكثير من إنجازاتها. ولكن رغم ذلك فهو تماما كالأم التي تحب ابنها رغم ما فيه من إعاقة أو تشويه. وهكذا نرى أن سالما ومن خلال صورة واحده استطاع أن يبني بكلمات قليلة قصيدة ذات أبعاد كثيرة تختصر النكبة بكل إسقاطاتها وملابساتها.
وفي قصيدة أخرى للشاعر بعنوان (بقية) يقول:
"هذا الشعر الأسود/ ما حملته النسمات/ من محلقة/ في الشارع للطرقات/ كلا.../ فهو بقية رأس فتاة/ داستها، قبل قليل/ عجلات الدبابات".[38]
في هذه التوقيعة الموجزة أيضا وبلمحة ذكية يشير الشاعر إلى وحشية النظام العراقي في حينه. هذا النظام الذي يقصف أعمار الشباب والصبايا الذين من حقهم أن يحلموا بحياة أجمل وأن يفكروا بمستقبلهم وبشبابهم. ولكن هذا النظام على ما يبدو يقف لهم بالمرصاد ليقطع عليهم الحلم بدلا من تطويره ورعايته. فخصلتا الشعر الأسود التي من المفروض أن تكونا بقايا شعر فتاة جميلة- مواطنة – تنثرها الريح من المحلقة إلى الطرقات ما هي إلا بقية رأس داسته عجلات الدبابات التابعة لهذا لنظام الذي لا يرحم والذي يقمع الأحلام.
وفي توقيعة أخرى له بعنوان ( الطالب الذي عشق الثورة) يقول:
"كل الشهادات إلى المرحاض/ كل كتب الدراسة/ تعلم التياسة/ فليتعلم الأجيال أن ثائرا جديدا/ آت/ لكي يسهم في تحرير أرض الشمس/ أو يهرق في محرابها أنفاسه".[39]
طالما أن الوطن محتل ومغتصب فلن تحرره الشهادات ولا كتب الدراسة، بل الثورة وإهراق النفس في محراب هذا الوطن. تحرير أرض الشمس (الوطن) يبدأ من هنا، من نذر الإنسان نفسه ثائرا على الاحتلال.
وعلى نفس النمط ينظم سالم توقيعة أخرى بعنوان (إلى القدس)، يقول فيها:
"دمي على الجدران/ يا مدينة القدس/ ولحمي علكة/ يلوكها الطغاة/ لا أقول آه... لن أقول آه.....!/ الشمس في قلبي/ وإني واثق/ بأمتي حين يطوف الموت في ساحاتها/ تعرف كيف تخلق الحياة".[40]
دمه على الجدران أراقه المحتل، ولحمه صار علكة يتلذذ بطعمه المغتصب ذلك لأن القدس رمز كرامتنا قد أهينت، ولكنه رغم ذلك صابر لا يتوجع أمام جلاده لأن الأمل يحدوه فهو واثق بشعبه الذي كلما اشتد عليه الظلم يعرف كيف يتحرر منه. فليل الظلم مهما طال مصيره أن ينجلي والموت مهما كثر وانتشر فهو بداية لحياة جديدة، حياة حرة كريمه، في وطن حر، ذلك إذا أردنا.
وهكذا تتلاحق قصائد سالم جبران التوقيعية في دواوينه الثلاثة، وكلها تدور على نفس المحور الثيمي، والصورة التي عليها يشيد هذه التوقيعات يستمدها من واقع مظلم لشعب محتل ومقهور مقابل ظالم لا يرحم يحرق الأخضر واليابس. ولكن هذا الواقع القاتم مهما كان قاسيا يكتنز في داخله نقطة نور يراها الشاعر تلوح في نهاية الأفق، وتطل عليه من الأفق البعيد، لذلك هذه القصائد القصار رغم ما فيها من مرارة تنفتح دائما على أمل ثوري آت.
وما يميز توقيعات سالم جبران، وهذا ينسحب أيضا على توقيعات توفيق زياد، الوضوح وسهولة الفهم والمدلول. وهي جميعها تأتي عرضا دون تكلف أو تصنع. وللتدليل على ذلك نسوق هذه التوقيعة وهي بعنوان (مبايعة) يقول فيها:
"كل الألى تزعموا/ قبلك/ ساقونا قطيعا أعزلا للموت / فدس على قبورهم/ - المجرمين-/ وتزعم أنت".[41]
الوضوح هنا بارز والمدلول كذلك، فالزعامات التقليدية ساقتنا إلى هذا الواقع المظلم كالقطيع، ساقتنا إلى الموت وذلك لقلة درايتنا بخيانتهم – بينما اليوم هنالك جيل آخر، جيل جديد، ما عاد يؤمن بتلك الزعامات وبشعاراتها المضللة، فهم فجرنا نحو الشمس ولهم نسلم قيادنا لأنهم واعون نثق بهم.
هذه المزاوجة بين القديم والجديد تحتل دائما لب الصورة عند سالم جبران في حديثه عن الوطن.
على غرار هذه التوقيعة الواضحة الدلالة يقدم لنا توقيعة أخرى بعنوان (مرثية) يمجد فيها ذكرى الذين دفعوا أرواحهم ثمنا لحرية الوطن، بينما هو الذي لا يملك سوى الكلمات يخجل منهم ومن تضحياتهم. يقول:
"أمجد ذكراك من غير أن/ ازور ضريحك/ يا صانع المعجزات/ لأني إذا زرت / سأموت حياء/ أنا كل ما صنعته يدي/ كلمات".[42]
وهناك عدد كبير آخر من هذه التوقيعات في شعر سالم جبران لا نستطيع إيرادها هنا وذلك لضيق المجال.[43]
وكما جاءت توقيعات سالم جبران المبنية على صورة كليه واحده والمكتنزة عاطفيا ومعنويا والقائمة على موقف انفعالي مأزوم والمتميزة بوضوح الدلالة وسهولة الفهم والعفوية، كذلك جاءت توقيعات الشاعر توفيق زياد. ففي توقيعة بعنوان (شيء عابر) يقول:
"عندما مروا صباحا فوقها/ همست شجرة توت/ العبوا بالنار ما شئتم/ فلا .../ حق .... يموت".[44]
والإشارة هنا واضحة فالتوقيعة تشير إلى المحتل الغاصب الذي لا يفهم سوى لغة الحديد والنار، وشجرة التوت رمز للوطن، هذا الوطن الذي مهما هددوه بالنار ومهما ظلموه فهو صاحب حق، بمعنى شعبه صاحب حق وصاحب الحق سينتصر حتما إذ لا حق يموت إذا كان صاحبه يعي ذلك.
وفي توقيعة أخرى أطول منها قليلا بعنوان (أهون ألف مرة)، يقول:
"أهون ألف مرة:/ أن تدخلوا الفيل بثقب إبرة/ وأن تصيدوا السمك المشوي...../ في المجرة/ أهون ألف مرة/ أن تطفئوا الشمس وأن ..../ تحبسوا الرياح / أن تشربوا البحر، وأن .../ تنطقوا التمساح/ أهون ألف مره.../ من أن تميتوا، باضطهادكم/ وميض فكرة/ وتحرفونا، عن طريقنا الذي اخترناه/ قيد شعرة!".[45]
إن إدخال الفيل في ثقب إبرة وصيد السمك في المجرة، وإطفاء الشمس وحبس الرياح وشرب البحر وإنطاق التمساح كلها من المستحيلات. وكما هي من المستحيلات كذلك هنالك مستحيل أشد وأصعب وهو محاولة المحتلين حرف شعب الشاعر عن طريقه الذي اختاره، طريق الحرية والكرامة. من المستحيل تغيير فكرة آمن بها شعبه، وهي فكرة المقاومة، مهما اجتهد المحتل في ذلك. فالشعب قد نذر نفسه لمقاومة كل غاصب يحاول النيل من كرامته ومصيره أن ينتصر.
وهكذا تتلاحق أيضا توقيعات زياد، خاصة في ديوانه ( ادفنوا أمواتكم وانهضوا)، وهي جميعها كما توقيعات سالم جبران تناور على محور ثيمي واحد وتمتح مضامينها من واقع الشعب والوطن، هذا الواقع المظلم الذي يحاول فيه المحتل اضطهاد شعب الشاعر، ولكن الشعب، بحسه الثوري الصادق والصحيح، متفائل لأنه يؤمن بقدرات شعبه وبوعيه وإصراره على المقاومة.[46]
ومثلما لجأ الشاعران جبران وزياد إلى التوقيعة المكثفة والمعبرة عن لحظة انفعالية تأملية محدودة لجأ أيضا الشاعر سميح القاسم إلى ذلك، وخاصة في ديوانيه ( قرابين) و(أحبك كما يشتهي الموت)، ولكن مع ميل إلى السرية والضبابية والاقتضاب، وهي من علامات الحداثة، الأمر الذي يتطلب من المتلقي ذكاء خاصا، وذلك لفك رموز هذه التوقيعات وسبر أغوارها ومعرفة أبعادها وطروحاتها ومراميها.
يقول القاسم في توقيعة بعنوان (الغائب): "لعنقود ليلى كؤوس مهيّأة أين قيس؟".[47]
وقيس هنا هو العربي الغائب حاضرا القائم في الماضي، فكل شيء قد تهيّأ له الآن وما ينقص هو أن يستيقظ الغائب قيس ليحرر ليلى-الوطن- وليشرب نخب هذا التحرر. فليلى الوطن قد تزينت بالإصرار وتسربلت التحدي وهيأت كؤوسها لكن قيسا ما زال غائبا. فمتى يحضر؟! إنه سؤال يفتح كوة على الجرح الكبير الذي ينتظر الشاعر أن يراه يدمل ويرمم.
وفي توقيعة أخرى بعنوان كيف يعاتب الشاعر العالم الذي يشهد اغتصاب الشعوب ويرى بأم عينه قتل الأطفال والأجنة في الأرحام، كيف لا يغضب ولا يثور ولا يخجل ولا يحاول إيقاف هذه الوحشية. يقول:
"أخاطب أرصفة المدن الميتة/ واسألها كيف لا تغضبين؟/ وأوقف قافلة الهمج الزاحفين/ لأسألها كيف لا تخجلين؟/ لإعدام سيدة حامل/ لقتل جنين؟!"[48]
كيف لا يخجل هذا المحتل الهمجي؟ العالم ميت والمحتل لا يخجل، والحامل هي فلسطين الحبلى بألف حلم للتحرر، والجنين هو هذه الانطلاقة المقموعة سلفا.
وفي توقيعة أخرى بعنوان (إضراب عن الطعام)، يصور الشاعر الوضع البائس، المقلاة الفلسطينية، مقلاة الذل والعار والجوع، هذه المقلاة التي كرسها الاحتلال والتي ما زال شعبنا يغوص فيها في مواقع لجوئهم وغربتهم القسرية. يقول: "على شرف الموت هذه الولائم/ ويا سيد الخبز نحن جياع/ ومر طعام المآتم/ ويا سيد الخبز نحن جياع/ وقوت المذلة ظالم".[49]
وسيد الخبز ما هو إلا ذلك الغاصب الذي عليه أن يحذر لأنه مهما كان الطعام مرّا ومهما طال الجوع ومهما قست المذّلة فمصيره عند هبّة الجياع أن يزول وعندها سيدفع حتما هذا السيد الثمن غاليا.
وعن تقاعس العرب وتخاذلهم وضمائرهم المعطلة ونفاقهم يقول في قصيدة بعنوان (بابل) مقرِّعا إياهم ومنبها إلى لغتهم التي كادت تندثر لقلة اهتمامهم بها، وما اللغة هنا سوى رمز فهي جامعة العرب على تراثهم وتاريخهم. هذه اللغة التي باعوها وباعوا معها الأوطان:
"إله ببيجامة/ ونبي بدون دعاة/ وشعب الضمائر في عطلة دون أجر/ ويرشو القضاة القضاةْ/ ويا لغتي نسيتك اللغات".[50]
وعن المنفى والاغتراب عار الفلسطيني يقول في توقيعة بعنوان (دمعة في الغربة):
"هل ثمة ناد ليلي/ يقبل أشعاري؟/ أوزاني تصلح للرقص الشرقيّ/ للحم العاري/ يا ضيعة وجهي المنفي/ عاري يا عاري".[51]
هذا العار الذي يكبس على الشاعر لا يحس به إلا من ترك وطنه واغترب عنه قسرا، أو بشكل أشد وأقسى ذلك الذي يعيش الغربة في وطنه كما هو وضع الشاعر.
وفي توقيعة (مزامير لم ينشدها دافيد) يتحدث عن المقاومة وعن فعلها وضريبتها والاستشهاد من أجل الوطن. فكم هو جميل ذلك الذي يدفع حياته ثمنا لحرية وطنه وشعبه، يقول:
"لا انتظر المعلومات من وكالة رويتر أو عيتيم/ فأنا أعرف وعدسات التلفزيون تعرف/ وأقلام الصحفيين/ كم سأكون جميلا/ حين أستلقي على ضفة الأردن/ جثة هامدة.../ سِلاه".[52]
ويقرع الشاعر هؤلاء الذين نسوا الوطن ونسوا معالمه، هذا الوطن الجريح الذي ينتظر من يحرره، وذلك بتوقيعة عنوانها (شجرة جمّيز)، حيث يقول فيها:
"في سفح الجرمق/ قبل "الجرمق" بقليل جدا/ تبكي للريح شجيرة جميز/ هل يذكرها أحد؟/ هل أحد يذكرها؟".[53]
والجميز شجر وعري من معالم طبيعة الوطن وبكاؤه يعني الشيء الكثير، يعني النكبة والظلم والاضطهاد. والجميز ينتظر من ينقذه، من يرد عليه ضحكته، فهل يذكره أحد منا؟ إنها توقيعة مقنعة بالكثير من الأبعاد والعتب المر. ولكن الشاعر ليس يائسا، فكما رأينا عند سابقيه كوة الأمل المشرعة على الآتي نراها عنده أيضا، فهو لا يستسلم بل يرى البعث آت لا محالة شأنه في ذلك شأن كل الشعراء الثوريين، ويرى كذلك مع البعث أن المسيرة لا بد لها أن تبدأ، وهي مسيرة مشتاق للحرية، إذا ما انطلقت فلا شيء يمكن أن يقف في طريقها. يقول في توقيعة بعنوان (من جديد):
"على اليد المبتورة/ تولد من جديد/ حقيقة... أسطورة/ وفي هشيم الرأس/ تولد من جديد/ زهرة عين الشمس/ وفي عظام الساق/ تبدأ من جديد/ مسيرة المشتاق".[54]
فاليد المبتورة والرأس المهشم صورتان للاحتلال والاضطهاد، وولادة الحقيقة الأسطورة وزهرة عين الشمس كلتاهما صورة للبعث، والمسيرة هي المسيرة نحو الشمس، نحو الحرية.
وتصل توقيعات الشاعر ذروتها في هذه التوقيعة الرائعة التي يتوج بها هذه المسيرة الشائكة والتي تلح على الإصرار والمقاومة وعشق الوطن وهي جميعها الثالوث المقدس لقهر دنس الاحتلال والظلم، يقول في (تلاوات من آي الحب): "لن يقهر الغزاة شعبنا/ لأنني احبك/ لن يروض الفاتحون وطننا/ لأنك تحبينني".[55]
عشق الوطن هو التعويذة التي ترد عنه الغزاة وتقهرهم.
وبالتالي، وبعد استعراضنا لعدد من التوقيعات لشعرائنا الثلاثة: جبران وزياد والقاسم، تبين لنا كم في هذه القصائد القصار من مدلولات ومن إحكام البناء والتركيز والتكثيف، بحيث تقوم جميعها على صورة كلية للقصيدة من خلال صورة واحدة، وتصور موقفا انفعاليا مكتنزا عاطفيا ومعنويا. كما تبين لنا أن جميع هذه القصائد تدور على محور ثيمي واحد وتمتح من واقع الوطن والشعب، وتفتح نهاياتها على الأمل. كما رأينا قربها من المقطوعات الشعرية القصيرة وانسجامها لاختزال ألفاظها ودلالاتها المعنوية الكبيرة مع التوقيع الذي بيناه في البداية.
ثانيا: الخلاصيات أي القصائد التي جاءت فيها التوقيعة في خواتم المقاطع أو في خواتم القصائد
أ. خلاصيات القصائد: في خلاصيات القصائد نجد توقيعات مبنية على نفس نمط بناء القصائد الموقّعة، ولكن التوقيعة هنا ليست قصيدة/ مقطوعة كاملة وإنما هي خاتمة لمقطع أو لقصيدة. وهذه النهايات/ الخواتم تكون عادة مكثفة ومضغوطة تعتمد الإيجاز والتركيز في بنائها والتعبير عن لحظة تأملية انفعالية مكتنزة عاطفيا ومعنويا وتقوم على صورة كلية من خلال صورة واحدة كما أسلفنا. وهي بهذا تكتسب ميزة خاصة، إذ أن القصيدة/ المقطوعة تكون في مجراها العام هادئة الحركة، فتأتي هذه الخواتم المكثفة الجانحة إلى الترميز والإيحاء وأحيانا إلى السخرية لتفتح القصيدة/ المقطوعة على التأمل- من هنا يمكن أن نطلق على الخلاصيات صفة التوقيعة الانفجارية، ذلك أنها أشبه بلسعة العقرب (poenta)، حيث أنها تأتي في النهاية لتنفجر في وجوهنا كي نعيد الوقفة مع القصيدة/ المقطوعة من جديد، لأنها تشرع أمام المتلقي كوى كثيرة لمعان مغيبة ومضمرة ينفذ منها للتأمل والتفسير وللتأويل. وهذه الخلاصيات التوقيعية تأتي مقنعة بالأمل والتفاؤل حينا، وبالوعيد والتهديد حينا آخر، وبالغضب والتحذير حينا ثالثا، كما هو واضح في خلاصيات قصائد مقطوعات سالم جبران التوقيعية. يقول سالم جبران في نهاية قصيدة (بقاء): "سأظل هنا/ أمسك جراحي/ وألوح بالأخرى/ لربيع يحمل لبلادي/ دفء الشمس وباقات الأزهار".[56]
في هذه الخاتمة يفتح سالم كشاعر ثوري قصيدته في النهاية على التفاؤل والأمل وعلى التحدي والإصرار. فبعد أن يصور فلسطين أرضا مقاومة للاحتلال رغم جراحها ومقبرة لأحلام الهمجيين، تأتي هذه النهاية المتفائلة لتبشر المحتل بأن الشعب باق رغم كل شيء.
وفي قصيدة/ مقطوعة أخرى بعنوان (المعركة)، يصف الشاعر عملية هدم البيوت العربية من قبل السلطة وإسقاطاتها وأبعادها وأثرها على أصحاب البيوت، وعملية الهدم هذه وسيلة من وسائل القمع التي مارستها السلطة ولا تزال ضد الشعب الفلسطيني في وطنه، هذا من جهة، كما يصف بالمقابل فرحة الجنود، أذرع السلطة الذين نفذوا عملية الهدم وعودتهم، وكأنهم عائدون من معركة وهم ينشدون أغنيات المجد والظفر بينما صاحب البيت الذي دفع الغالي والثمين في بنائه، والبيت هنا رمز الاستقرار والعيش الكريم كما الوطن، يكاد ينفجر من حزنه وغضبه. ويختتمها بهذه التوقيعة الساخرة اللاذعة المقنّعة بالكثير من المرارة- حيث يقول:
"... يا شعب إسرائيل... بوليسكم/ عاد... اخرجوا، حالا إلى ساحاتكم/ واستقبلوه... إنه/ قد حطّم العدو... وانتصر".[57]
وفي قصيدة (كفر قاسم) التي نظمها في أعقاب المجزرة، وبعد أن يصف المجزرة وما خلفته من مأساة يتسربل الشاعر ثوب التحدي والإصرار على الكفاح، فهو يكره البكاء والجلوس عند القبور. فالغاصب ما زال يسحب الأرض من تحت أقدامه، لذلك فالبكاء لن يجديه بل المقاومة. والشاعر هنا الشعب برمته. من هنا تأتي خاتمة القصيدة لتتفجر تحذيرا وغضبا، فالشاعر يحذر أمته بصوت غاضب وينبهها إلى أن العملية ما انتهت، بل هي مستمرة، لذلك عليها أن تحذر وألا تركن إلى الاستكانة، يقول: "يا أمّة أحبّها تنبّهي/ فلا تزال الحية الرقطاء/ عطشى إلى الدماء".[58] ومدلول الحية الرقطاء واضح.
وفي (جيل الخيام)، القصيدة/ المقطوعة الرائعة التي يصف فيها تمزيق شعبه والحزن الذي يخيم على هذا الشعب الذي صار فجأة لاجئا، فذاق بذلك ذلّ العوز والحرمان، لذلك فهو يعتب على التاريخ وعلى أسياده ويهدده إذ أن جيل الخيام ليس كالجيل السابق، إنه جيل وُلِد وتعمد بالإصرار وبالكرامة وعلى يديه سيكون النصر، رغم قساوة الزمن. يقول: "... خلوا الفتات على موائدكم/ وخلوني على جوعي، على عطشي أنام/ والويل للتاريخ/ من جيل الخيام".[59]
وفي قصيدة أخرى (الدنيا كانت) يقابل فيها سالم كيف كنا وكيف صرنا. قبل القرن العشرين كنا بسطاء نتكل على القدر ولا نميز بين مستغِل ومستغَل فالدنيا بالنسبة لنا على قلة وعينا في حينه حظوظ وكان علينا أن نسكت وأن نحمل نيرنا، بينما اليوم وبفضل التجربة المرة والوعي المكتسب منها تحولت الدنيا. ويختتم سالم قصيدته/ مقطوعته بهذه الخاتمة الغاضبة ولكنها المنفتحة على أمل ويقول:
"دوسوا تحت الأقدام/ أكاذيب الأجيال/ هذي الدنيا/ صنع سواعدكم/ ملك سواعدكم/ يا عمال!".[60]
وتصل خلاصيات سالم جبران قمتها في هذه التوقيعة المحملة بالكثير من الأمل الثوري. هذه التوقيعة التي يختتم بها قصيدته/ مقطوعته (يوم العار)، والتي يصف فيها ما خلفته نكسة حزيران من تحول إيجابي في نفوس شعبنا على عكس ما توقعه منها المحتلون. يقول:
"..... شكرا ليوم العار/ فنحن لولاه بقينا مثلما/ كنا، نمص جرحنا/ في ذلة الكلاب أو نخمس الأشعار".[61]
وهكذا نجد أن خلاصيات سالم جبران التوقيعية استمدت مخزونها من واقع شعبه المظلوم المقهور ولكنها لا لتكرس هذا الواقع، بل لتفجره بكلمات قليلة مشحونة بأبعاد كثيرة بالأمل والتهديد والغضب الثوري لتفتح بالتالي الباب على مصراعيه للتحدي وللمقاومة وللإصرار والصمود.
ب- خلاصيات المقاطع: في هذا النوع من الخلاصيات نجد توقيعات كالتي ذكرناها سابقا، لكنها هنا لا تجيء لتختتم القصيدة/ المقطوعة، بل لتختتم مقاطع القصيدة/ القصائد. وأعني بذلك تلك القصائد المبنية بناء مقطعيا، بحيث تكون القصيدة عبارة عن قصائد منفصلة ذات عناوين خاصة ولكنها تخدم في معناها موضوعا معينا. ومن هذه "المشاهد المختلفة تبرز في مجملها حقيقة الصراع الذي تقوم به الحياة ومواقف الإنسان في هذا الصراع. ويقوم كل مشهد منها على حدة وفي هذا سر نجاح الصور في ذاتها وفي مجموعها".[62]
وفي هذا اللون من الشعر المقطعي ذي التوقيعات الخلاصية المكتنزة تميّز الشاعر توفيق زياد وخاصة في قصيدتيه (رجوعيات) و (ست كلمات).
فقصيدة رجوعيات[63] تتكون من سبع مقطوعات، لكل منها عنوان منفصل يشع منها بعد إيحائي ونفسي معين لكن هذه المقاطع جميعها تجتمع وتتوحد في النهاية لتتفجر على شكل حلم من أجله يعيش الشاعر. وهذه المقاطع تتسلسل بحيث نستطيع أن نعتبر كلا منها توقيعة مكتنزة انفجارية تنفتح على أمل ثوري وتفاؤل. وهي تأتي كالتالي:
1. ريح من الشرق[64]- توقيعة فيها إثارة للذكريات.
2. أشد على أياديكم[65]- توقيعة يخبر فيها أهله البعيدين عنه عن صموده وإصراره على البقاء في وطنه بكرامة.
3. السكر المر[66]- توقيعة فيها قصة صمود ووطن جريح وشوق وتحد.
4. مساكين[67]- توقيعة تصور الوطن والمحتل العنجهي المتغطرس.
5. بأسناني[68]- توقيعة عن الصمود والتعلق بالأرض وبالوطن.
6. جسر العودة[69]- توقيعة فيها فرح وأمل وتفاؤل.
7. المصلوب[70]- توقيعة يعبّر فيها عن واقعه.
هذه المقاطع جميعها تأتي لتعبر عن البعد النفسي للشاعر وعن تجربته، كما أنها تعبر عن موقفه الثوري. ويختتم الشاعر هذه المقطوعات السبع بتوقيعة متفجرة معبأة بالأمل الكثير حيث يقول فيها:
"..........................تنفس.... أهلك الغياب/ يا مصلوب..... قد عبروا".[71]
ويقصد أن الأهل قد عبروا النهر إشارة إلى عودة المهجرين وإلى توحد الشعب الذي مزقه الاحتلال.
وفي قصيدة (ست كلمات)[72] نجد ست مقطوعات، كل مقطوعة قصيدة قائمة بذاتها ودفقه شعورية ولكنها جميعا مشدودة بخيط نفسي ومنطقي واحد بحيث تشكل جميعها بالتالي صورة للاحتلال – وهي كما في ( رجوعيات) تتسلسل لتختتم في توقيعة انفجارية تفتح الباب على الأمل:
1. قبل أن يجيئوا[73]- مقطوعة رومانسية تصور وضع الاحتلال الذي يأتي بأيد ملطخة بالدم إشارة إلى الثمن الغالي الذي دفعه الوطن والشعب.
2. ثلج على المناطق المحتلة[74]– يصور فيها الجمود والذهول الذي أصاب الوطن بعد الاحتلال، ولكنه في نهايتها يذكر إصرار الشعب وصموده وكفاحه حيث يقول: "...................وطني !! .......... مهما نسوا – مر عليه ألف فاتح/ ثم ذابوا/ مثلما الثلج يذوب".[75]
فمصير كل محتل أن يرحل يوما، هكذا يعلمنا الوطن الذي مرت عليه تجارب احتلالية عديدة.
3. أمثال[76]- توقيعة يرى من خلالها المستقبل، إذ أن ما جاء به الاحتلال مصيره أن يزول:
".....كل ما تجلبه الريح/ ستذروه العواصف".
4. شيء عابر[77]- توقيعة تصور تسرب اليأس إلى نفس الشاعر ولكن لا حق يموت.
5. تلفون[78]- توقيعة يصور فيها الشاعر غطرسة الإسرائيلي وصلفه. ولكن "الفرخة لم تبض فما زالت تلوب".
6. سلمان[79]- توقيعة مأسوية تشبه الواقع ولكنه رغم ذلك يختتمها بتوقيعة مكثفة تنفتح هي الأخرى على الأمل رغم قتامة الواقع
"...... ما كنا كما نشتاق/ والآن ن